من غباء "الانقلاب المتسرّع" أنه دشّن 25 جويلية بخطوة إلى الوراء عندما جاء البلاغ الرسمي الذي يتضمن الإجراءات على صفحة رئاسة الجمهورية مختلفا عن ما ورد على لسان سعيد خلال لقاءه بقيادات أمنية وعسكرية- ومن المهم الإشارة هنا أن "التعديلات" كانت إجابة مباشرة على نقطة الالتقاء الوحيدة ليلتها بين الانتقادات التي وجّهت لمضمون الخطاب من الداعمين والمناهضين (تسقيف الاجراءات بـ30 يوما)- ثم أردفها بقفزة إلى ما قبل الوراء متمثلة في أغنية "لطيفة" التي سارعت مديرة ديوانه والتلفزة العمومية لنشرها في مشهد لا يقل سماجة عن "نغم وطني لسنية امبارك" وأخواتها التي كانت واحدة من مسببات القرف في المجال العام طيلة سنوات خلت.. منذرة باستنساخ 7 نوفمبر..
لا يقتصر "الانقلاب المتسرع" على كشف نقاط ضعفه في الجانبين الشكلي (الفوارق بين المنطوق والمكتوب) والدعائي (أغنية لطيفة/جوقات التطبيل الاعلامي).. بل كان واضحا منذ اليوم الأول أنه إمتداد لمسار هيأته له ظروف موضوعية منها خطايا 24 التفريطية ومنها أيضا أدوار الفاشية مدعومة من الوظيفيين طيلة عشرية كاملة وبأشكال وأساليب مختلفة..
تعرّى الانقلاب نهائيا بمشهدين على غاية من الأهمية، أما المشهد الأول فهو اسقاط رواية "التفويض الشعبي" فبعد أن كان الانقلاب يستمد قوته من ضعف وهشاشة المشهد السياسي الذي انهار في دقائق معدودة ليلة 25 جويلية، تمكّن الشارع الديمقراطي من استعادة جزء مهم ومؤثر من المجال العام متمثلا في قوة الشارع بتدرّج متعاظم من 18 سبتمبر إلى 26 سبتمبر وصولا إلى 10 أكتوبر.. شارع ديمقراطي مسيّس في مواجهة جوقات التزمير والمناشدة..
وأما المشهد الثاني فهو تصدّر رموز نظام بن علي ومعهم بعض "ضحايا الثورة" للمشهد الاعلامي في تماه تام مع ما يمثله الانقلاب والعودة الى حكم الفرد "المرغوبة" من جهة (بسبب موقفهم الرافض للإسلام السياسي ولثورة 17 ديسمبر) وفي تناقض تام مع ما يردده سعيد من شعارات تزعم احتكار 17 ديسمبر.. يتضح من خلال هذا المشهد أن 25 جويلية ليست سوى 16 ديسمبر 2010..
في المحصلة تم تجريد الانقلاب: سياسيا من سردية "التفويض الشعبي" من خلال تحرّكات "مواطنون ضد الانقلاب" وأخلاقيا من ادعاء الدفاع عن الثورة و17 ديسمبر من خلال استفزاز "الانقلاب الخفي" ليظهر علنا في الواجهة دون أن يكتفي بالتحريك من وراء الستار..
إلى جانب ذلك، ارتكب سعيد أخطاء كبيرة في خطاباته المتشنجة أوقعته في المحظور اتصاليا (الأرقام المغلوطة) وفي المحظور سياسيا (تشويه وشيطنة واستهداف المعارضة) ليتّضح أن 25 جويلية في عمقها تكاد تكون متطابقة مع 16 ديسمبر 2010 في مآلاتها..
سقط سعيد أيضا في المحظور "أخلاقيا" عندما اتضحت الفروقات الشاسعة بين ما يرد في بلاغات الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية وبين ما يرد في البلاغات والبيانات الرسمية الخارجية اثر كل لقاء أو اتصال ما يؤكّد أن صفحة الرئاسة التي باتت "وكالة الأنباء الرسمية" قد تحوّلت إلى منبر للكذب والخداع وتزييف الحقائق.. هكذا ما تكشّف من بيانات الأطراف الخارجية في ظل "صمت" الأطراف الداخلية التي تواصل معها سعيد واستقبلها ليظهر في ثوب "الأستاذ المعصوم"..
المحاكمات العسكرية لمدنيين التي يغلب عليها التشفي والانتقام والأعمال الميليشياوية على الشبكات وحتى على الأرض تكشف أيضا أن مقولة "احترام الحريات" ليست سوى "كذبة" أخرى لا يتضح ما إذا كانت الغاية من وراءها توظيف "واجهة الانقلاب" ككاسحة ألغام أو أنها "سلوك عصبي من زمن الجاهلية" يروم صاحبه الثأر من خصومه ومنتقديه في ظل السحل المتواصل للمعارضة على مستوى الخطاب المنطوق..
كلما فقد الانقلاب أداة من أدوات الردع/السلطة الرمزية (سياسيا/اتصاليا/أخلاقيا) كلما اتجه للتصعيد عبر أجهزة الدولة/النظام الصلبة وهذا مرجح في الفترة المقبلة.. لكنه يحتاج إلى توفير شرطين أساسيين: أولا تركيع القضاء (وهذا يفسر الضغوطات والقصف المركز من طرف سعيد باتجاه القضاة) وثانيا إيجاد حل لمسألة التوازنات المالية.. هذه الشروط لن تكون سهلة المنال لكنها ليست مستحيلة في الظرف الحالي..
أخطاء سعيّد المتتالية وخروج "الانقلاب الخفي" عن صمته بالإضافة إلى هبة الشارع الحقوقي والسياسي الديمقراطي ومواقف "تونس المناضلة".. كلّها عناصر مهمة في تجريد الانقلاب من أدواته وحجته الأولى "الخطر الداهم القادم من البرلمان" لكنها ليست كافية لإسقاطه إذا لم يتحوّل الفعل المواطني/الحقوقي/السياسي المناهض للانقلاب من "سياق التوازنات/الرمزيات"، على أهميتها، إلى سياق "الأرضيات/المشتركات/البدائل".. فالانقلاب يحمل في طياته نفس بذور فناء "المشهد السياسي الهش" الذي كان قائما قبله..
(يتبع)