من ثقب في الجرح تتنفّس الحرية !

وكأن فلسطين لا تريد ان تتوقّف ابدا عن ابهارنا بأشياء خارج المألوف والسائد .. وكأن ذلك الشعب عُجن بماء الآلهة والأنبياء والقدسين معا .. ليكون يسوعا في تحمّل آلامه و رسولا يعلّم البشرية معنى الصمود من أجل قضية وموسى في صنعه للمعجزات طوال الوقت ..

وكأن ذلك الشاب الملتحم بدبابة والمشتبك بقنبلة من مسافة الصفر، أراد ان ينهي العمل الذي لم تنه شادية أو غزالة التي صنعت قنبلة أنانية أحبت الغزالة الفلسطينية وأصرّت أن تأخذها معها في سفر طويل.. قبل أن تتمكّن فراشة الجبهة الشعبية وأول امرأة شهيدة بعد النكسة من تفجيرها في قلب العدوّ..

انها وصية الأرض والدم والثأر ..

تتناقلها الأجيال بنفس الايمان والقناعة.. كبروا الأشبال.. ومن كان بالأمس طفلا يلهو برجم العدو بمقلاع ويقذف الدبابات والمدرّعات بحجارة من سجيل مع رمزي أبو رضوان ،ذلك الطفل الذي كان يبيع الصحف صباحا ويفجّر الانتفاضات مساء ! أصبح اليوم يخوض حربه ..يقف على أرضه ولا يساوم ..يفتح أبواب الجحيم أمام الغزاة ويحوّل الأرض والسماء الى جهنّم ولا يستسلم .. تحاصره الخيانة والخديعة والوضاعة ولا يستسلم .. تدفن الحياة بكل احلامها وقصصها وحكاياتها تحت الركام ولا يستسلم ..

وكيف يستسلم من يعلم ان السماء لن تبتسم الا اذا عاد الحق لأصحابه !

تتدحرج الدبابات كعلب الكبريت ..ويُهان العدو ويُمرّغ وجهه في وحل تخوم غزّة .. وتصلّى مريم العذراء صلاة الغفران من أجل الشهداء ويقرع عيسى أجراس كنيسة القيامة قبل القيامة .. ويكره العالم كذبة ابن اليهودية وتشتم البشرية نسل إسحاق ! تسقط كل الأساطير ..الا الفكرة لا تسقط ..الا الحقّ لا يُنسى ..تسقط الأجساد ويلتقط الورثة الثأر ويواصلون المهمة !

أمام الدبابة يُكتب اليوم التاريخ بشكل مختلف .. وفلسطين تحب دائما أن تكتب التاريخ ..ومتى كان هناك تاريخ بعيد عن فلسطين ..منذ الكنعانيون وفلسطين تكتب حروف التاريخ !

ولأن حروف التاريخ لا تكتمل الا بكلمة حرية .. فكل روايات أبطال الحرية ما تزال تكتب نهايات مختلفة حتى في الغياب وتلهم أجيال الثأر..

حتى كأن شادية أبو غزالة ، ما زالت لم تنته بعد من صناعة تلك القنبلة الأخيرة التي أنهتها ذات انفجار ..وكأن معين بسيسو لم ينه مطلع القصيدة التي كُتبت على قبرها :


أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح

أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح

وكأن شادية ما تزال طفلة تلهو بضفائرها الطويلة قرب ينابيع الماء في نابلس ..تركض خلف الفراشات في بساتين الرمان واللوز والخوخ والمشمش والدراق.. لكن مواسم كثيرة لجني الزيتون أتت وشادية لم تأت..ما زالت خلف البيت تصنع قنبلتها !

كانت شادية تدرس بجامعة القاهرة ..ولكن بعد النكسة قررت أن تعود وتلتحق بمعسكرات التدريب المسلح التابعة لجبهة الشعبية ..يكتب عنها أحد رفاقها فيقول ، لم أكن أعلم أن تلك الفتاة الناعمة ذات الابتسامة الخجولة كانت تقوم بعمليات نسف باستعمال القنابل اليدوية والمتفجرات بدائية كانت تصنعها !!

لقد كانت شادية تحيك النصر في قنبلة يدوية ..لم تكن تحيك كنزة صوف لحبيبها بل كانت في مهمة تهيئة أرض صالحة للحب …

تركت شادية أبو غزالة دراستها في جامعة عين شمس المصرية وعادت الى نابلس رغم إصرار العائلة أن تبقى في مصر وتنهي دراساتها ..ولكن شادية كانت تقول:

"وما فائدة الشهادة الجامعية اذ لم يكن هناك جدار أعلقها عليه " !

ستعود شادية في روح كل فتيات فلسطين الصغيرات ،زهرات شقائق النعمان في سهول الخليل والسوسن الأسود في مرتفعات الجليل لتنبي الجدار الذي حلمت به شادية أبو غزالة لتضع عليه شهادتها الجامعية.

سيأتي يوما و تصبح فيه مساحة جهورية فلسطين بحجم وطن حقيقي ..

أكبر من ذلك الباص الذي ركبته دلال ذات صباح من يافا الى تل ابيب في رحلة أخيرة ..

كان الطريق جميلا من يافا .. على جنباته تقف أشجار البرتقال لتبتسم في وجه دلال المغربي .. في مخيم صبرا أين ولدت حدثّتها أمها عن مذاق برتقال يافا وكانت تشعر بطعمه على لسانها ..لم يكن يوجد برتقالا في المخيم و لكن شعب الخيام كان يحمل فلسطين بتفاصيلها في حقيبة سفر صغير وكان يحتفظ بمذاق الأشياء طازجة في ذاكرته وليس في ثلاجة ..

عندما قرّر أبو جهاد أن يرسل دلال على رأس مجموعة دير ياسين الفدائية لاختطاف حافلة المستوطنين و التوجّه الى تل ابيب للمفاوضة على اطلاق عدد من الاسرى ..كان يعلم انه يرسل امرأة بحجم جيش كامل..

كانت دلال ترتدي بزّة القتال مثلها مثل كل الفدائيين ولكنها لم تنس يوما ان تضع الكحل في عينيها .. فتلك العيون الجميلة التي تلمع بشكل خاصّ في ساحة التدريب كانت تبدو أجمل بالكحل ، فأن تحمل امرأة بندقية على كتفتها وتمتشق كوفية تغطي جديلة شعرها، لا يعني أنها لم تعد امرأة بل أصبحت امرأة بشكل مختلف ومشاعر مكثّفة .. وهي تقف على أبواب البطولة والتاريخ والشهادة وترسم علامة النصر على أبعد نجمة في السماء .

قبل أن تتسلّل دلال الفدائية عائدة الى أرض الوطن المحتّل ، تركت وصية كتبت فيها بخطّ يدها:


استقلالية القرار الفلسطيني تحميه بنادق الثوار المستمرة لكل الفصائل..

لم تصنّف دلال المقاومة .. المهم ان تضرب عدوّك لا مفرّ .

تضرب بساعد قوي وقلب شجاع وأنت تنظر مباشرة في عينيه ..

عندما قررت دلال ان تلتحق بالمقاومة المسلحة رفض خطيبها ان تفعل.. كانت امام خياران .. حياة مع من تحبّ في مخيم لجوء ومع رجل سيأتي لا محالة خبر استشهاده في يوم ما .. او موت في سبيل قضية وطن لا يتحرّر الا بشراكة الرصاص وليس الفراش بين الرجال والنساء ..وحملت دلال بندقيتها وهي تضع رصاصة إضافية في جيبها !

عندما امتطت ذلك الباص مجموعتها الفدائية قالت للمستوطنين أنها لا تريد قتلهم وانهم فقط رهائن الى حين اطلاق المعتقلين من سجون الأسر .. ثم أخرجت من حقيبتها علم فلسطين وعلّقته داخل الحافلة المتوجهة من يافا الى تل ابيب وهي تهتف "بلادي.. بلادي.. لك حبي وفؤادي، فلسطين يا أرض الجدود إليك لا بد أن نعود".

رفعت دلال العلم وغنت النشيد وأعلنت فلسطين جمهورية بحجم مساحة باص يعبر الأرض المحتلة ..

وكتب نزار قباني :

"في باص... أقاموا جمهوريتهم أحد عشر رجلا بقيادة امرأة اسمها دلال المغربي تمكنوا من تأسيس فلسطين بعدما رفض العالم أن يعترف لهم بحق تأسيسها... ركبوا أتوبيسا متجها من حيفا إلى تل أبيب وحولوه إلى عاصمة مؤقتة لدولة فلسطين... وكانت أول رئيسة للجمهورية الفلسطينية اسمها دلال المغربي "

ولكن جمهورية دلال المغربي انتهت بعد اربع ساعات عندما تم تطويق الباص فاضطرت دلال ومن معها الى تفجير الباص بمن فيه.. اختارت الشهادة عن الاعتقال .. وفي طريقها صمّمت على أن تقذف ببعض المحتلين في جهنّم .

حرمت الصهاينة لذّة قتلها ولم يجد المجرم ايهود بارك الا جثتها الطاهرة ليجثو ككل السفاحين عند رأسها ويطلق النار على الجثة.. كان لا يصدّق ان دلال ميتة ..من أذلته وكيانه لقيط ميتة .. أطلق الرصاص على جثة وابتسم ككل قاتل جبان وهو يلتقط صورة ستبقى عنوانا لخسّة ووضاعة العدو !

في ذلك المساء وذلك المجرم يطلق النار على جثة كانت روح دلال تحلّق فوق سماء القدس ..

كانت تتحوّل الى نجمة لامعة ..وتفتح ثقبا في الجرح ليتنفّس الفلسطينيون هواء نقيّا .

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات