تثار بين الفينة والأخرى قضية لغة الرواية، ويحمى الجدل كالعادة بين فريقين. فريق يرى في اللغة عنصرا من عناصر العمل الروائي، ويعتبر أن التركيز على ما يعتور هذا الأثر أو ذاك من هنات لغوية مسألة ثانوية، لا تضرّ بقيمته الفنية، ولا تقلل من شأن مُنشئه إذا كان يمتلك العناصر الفنية الأخرى.
وفريق آخر ينظر إلى الرواية بوصفها عملا أدبيّا، وقوام الأدب اللغة، وبالتالي لا يمكن أن يكتمل الأثر إلا متى استوفى شروط الكتابة الأدبية، وأولها امتلاك اللغة والإلمام بقواعدها، شأن سائر اللغات الحية التي يتوسل بها كتاب الرواية في العالم. وبذلك تُطرح القضية من زاوية الدفاع عن سلامة اللغة العربية من جهة، أو الاستهانة بها بدعوى علوية الإبداع على القواعد الجامدة من جهة ثانية.
وقد وقفنا على هذا الخلاف مؤخرا عقب قرار لجنة البوكر العربية رفض رواية للمصري محمد المنسي قنديل مشحونة بأخطاء فاقت المئة، فأيد بعضهم ذلك القرار لأن كثرة الأخطاء في عمل واحد تسيء إلى الأثر في المقام الأول وإلى صاحبه في المقام الثاني، فيما احتج بعضهم الآخر بكون مؤلف الرواية كاتبا “كبيرا” (وكبير هذه باتت تُطلق على كل من جاوز الستين) شكّلت أعماله إضافة جادّة إلى مدونة السرد العربي، ومن الإجحاف محاسبته على الأخطاء اللغوية وحدها. والمسألة لا تخص هذا الكاتب المصري، بل هي قدر مشترك لدى جانب لا يني يتزايد من كتاب الرواية في شتى الأقطار العربية، فكم من كاتب عندنا في تونس مثلا يثور ثائره إذا ما لمّح ناقد أو باحث إلى أخطائه، بدعوى أن الرواية عنده ليست مجرد لغة وقواعد.
والحقّ أن في الموقفين نصيبا من الصواب، فالإبداع ليس تعبيرا إنشائيا يقتضي الالتزام ببنية صرفية جامدة، ولكنه في المقابل، وإن كان إنشاء على غير مثال، مشروط بإتباع قواعد اللغة المتداوَلة، وإلا عُدّ خروجه عنها، عن استهانة أو قلة تمرّس، خطأ يُخلّ بالعمل مهما سمت جوانبه الفنية.
وفي رأينا أن بالإمكان التوفيق بين الفريقين لو اقتدينا بالأمم المتحضرة التي تفوقنا في وفرة الإبداع وسعة انتشاره، واحتذينا حذو دور نشرها في التعامل مع النصوص، لأن الخلل الأساس يكمن في مؤسسات النشر العربية، التي يستهين أغلبها بدَور المصححين في إخراج الكتاب على أكمل وجه.
فالناشر الفرنسي مثلا يعيد إلى الكاتب نسخة مرقونة من مخطوطه مصححة بلونين، أحدهما بقلم الرصاص يقترح تغيير عبارة أو إعادة صياغة فقرة، والثاني بقلم الحبر الأحمر، كما في المدارس، يصوّب أخطاء لا تقبل الجدل.