المواقع الاجتماعية لا يجتمع فيها في الغالب إلاّ من كانوا على قناعة واحدة، ولا تقبل عناصر كل مجموعة رأيا يخالف تلك القناعة، والوافد مدعوّ إلى التماهي مع ما تطرحه ولو كانت آراء تخالف المنطق.
أحد النكرات ممن قبلت صداقتهم على الفيسبوك، كتب إليّ في اليوم التالي: “قرأت مقالك عن “الانقلاب البلشفي” فزهّدني في صداقتك”، وانسحب من حسابي. ولا أدري هل قرأ مقالي كله، المنشور بمجلة “الجديد” تحت عنوان “ماذا يتبقى من ثورة أكتوبر”، أم اكتفى بفقرته الأولى، وبنى عليها اعتراضه، دون نقاش.
ما يمكن استخلاصه من هذه الطرفة -ولا أسميها حادثة- أن المواقع الاجتماعية لا يجتمع فيها في الغالب إلاّ من كانوا على قناعة واحدة، ولا تقبل عناصر كل مجموعة رأيا يخالف تلك القناعة، والوافد مدعوّ إلى التماهي مع ما تطرحه ولو كانت آراء تخالف المنطق، وإلاّ فسوف يقابل بسلاح رهيب في متناول كل مشترك في ذلك الفضاء، أي ما يعرف بالـ”بلوك”، أي سدّ الباب أمام المغاير بأقفال مغلّقة، فلا تعبر بذلك عن ضيقها بالرأي المخالف، بل ترفضه جملة وتفصيلا.
وهو ما أطلق عليه بيتر وازون مصطلح “انحراف تأكيدٍ” للدلالة على ظاهرة إيثار المبحرين في الشبكة المعلوماتية التي تسير في اتجاه رؤيتهم للعالم، وتجاهل ما يعارضها.
وما يمكن استخلاصه ثانيا العمى الأيديولوجي الذي يختم على عقل المرء غشاوة تمنعه من التفكير، فيردّد ما حفظه بغير تمحيص، وإن أثبت الواقع زيف الأيديولوجيا التي بها يؤمن. وهي في واقع الحال الشيوعية الماركسية اللينينية، التي جاءت إلى السلطة بانقلاب عسكري على ثورة جماهيرية سبقتها ببضعة أشهر.
تلك الثورة التي أطاحت بالقيصر نيقولاي الثاني، وحملت تطلعات الإنسان الروسي إلى الحرية والإخاء بعد قرون من الاستبداد والسلطة المطلقة، ولكن لينين وجماعته من البلشفيين أجهضوها ليؤسسوا أعتى الأنظمة الشمولية في القرن العشرين. وهو ما أكده كبار المؤرخين، بمن فيهم الروس، ولم يشذ عن ذلك حتى المتخصصون الفرنسيون الذين نظمت لهم جريدة “لومانيتي”، لسان الحزب الشيوعي الفرنسي، مائدة مستديرة، بمناسبة مئوية “ثورة أكتوبر”.
والمفارقة أن الشيوعية التي لفظها أهلها بعد أن عاشوا ويلاتها، لا تزال حاضرة في عقول من لا يعرفونها إلاّ من خلال ما تكتبه حفنة من دجالي الشيوعية العرب.
ذلك السلوك عرّفه المتخصصون بـ“التنافر المعرفي”، أي أن المرء، عند التعارض بين العقيدة أو الأيديولوجيا والواقع، يحاول التكيّف بإنكار الواقع، وهو ما لخّصه عالم النفس الاجتماعي ليون فيستنغر في قوله “إنسان ذو قناعات، هو إنسان صعب تغييره، إن أعربت له عن اعتراضك أدار لك ظهره، وإن أريتَه وقائع وأرقاما سألك عن مصدرها، وإن استعملت المنطق أجابك أن ذلك لا يعنيه”.