لم يتردد الساهرون على معجم أكسفورد في اختيار عبارة “سياسة ما بعد الحقيقة” لفظة العام المنقضي 2016، لا سيما بعد البركسيت وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. هذا المفهوم الجديد الذي انضاف إلى المعجم السياسي ينطبق على ظاهرة تجتاح مجمل الدول المعاصرة، ديمقراطية كانت أم شمولية، وهي أن الشعوب، بعد أن وعت بأن نخبها السياسية والثقافية خذلتها، وأن وسائل الإعلام صارت تسمح للناس أجمعين، دون استثناء، بأن يعبروا عن آرائهم كيفما اتفق، ما عادت تهتم بالحقيقة قدر اهتمامها بما يوافق انتظاراتها وقناعاتها.
وأصبح الكذب مباحا ما دام يخدم مصلحة ويلبي حاجة، حتى وإن ضُبط صاحبه متلبسا، كاعتراف نايجل فاراج زعيم حزب استقلال بريطانيا بأن وعده باسترداد أربعمئة وخمسين مليون يورو أسبوعيا من الاتحاد الأوروبي كان خطأ ارتكبه فريقه، دون أن يصدم ذلك الاعتراف أنصاره، ما دام الكذب هنا يلبي وظيفة سياسية، ألا وهي التعبير عن استياء الطبقات الشعبية من النخب الداعمة للفكرة الأوروبية. وكذلك إقرار ترامب بأن طعنه في شهادة ميلاد أوباما لم يكن في محله، دون أن يَعدل أنصاره عن استعمال تلك الكذبة. ذلك أن “سياسة ما بعد الحقيقة، كما جاء في معجم أوكسفورد، هي اللحظة التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكل الرأي العام من استثارة العواطف والقناعات الخاصة”.
هذا المفهوم، الذي صاغه ستيف تيسيتش (1942-1996) الكاتب اليوغسلافي الذي لجأ مع أبويه إلى أميركا هربا من استبداد الماريشال تيتو، يميز بين السياسة التي تتجاهل الحقيقة، وبين سياسة الكذب التي تمارسها الأنظمة التوتاليتارية، بين كذب قائم على عقد بين الشعب وقادته، وبين كذب شمولي يفرضه طاغية على شعبه. وقد وردت العبارة في نص بعنوان “هزيمة أميركا” غداة حرب الخليج عام 1991، استعاد فيه تيسيتش ثلاثين سنة من الكذب في بلاد العمّ سام، صار خلالها الشعب، بعد فضيحة ووترغيت، يفضل أن يحميه قادته من الحقيقة، وهو ما فهمه الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض بعد استقالة نيكسون.
يقول تيسيتش “كل الطغاة عملوا على إلغاء الحقيقة. أما نحن، فقد أكدنا بأفعالنا أن ذلك لم يعد ضروريا، إذ اكتسبنا آلية ذهنية تستطيع أن تنزع عن الحقيقة كل أهمية. بوصفنا شعبا حرّا، اخترنا بحرية أن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة… وصرنا نفتقد إلى المعايير التي يمكن أن نقيّم بها الأمور، ما جعلنا نختار أن نرى الفضيلة في التفاهة. ونطبق هذه الفلسفة على كل مظاهر الحياة”.