الاستنكار الانتقائي

Photo

يشاعُ أنّ حرّية التعبير في فرنسا مقدَّسة، يهبّ المواطنون للذود عنها كلّما مُسَّ منها وترٌ حميم، ولكنّهم في الواقع يضيقون بها إن صدرت عن سواهم، أو جرت بما لا يناسب أيديولوجياتهم. عندئذ تختفي تلك الصّيحات الفولتيرية التي سمعناها عند صدور فتاوى ضدّ سلمان رشدي وتسليمة نسرين وكورت فيسترغراد وشارلي إيبدو، وتنوب عنها مواقف هستيرية تروم إخراس الطرف الآخر، وكأنّ حرية التعبير عندهم نسبية، وأنّ استنكارهم انتقائيّ.

لمسنا ذلك في موقفهم من مقالة جماعية نشرها عدد من الجامعيين في شهر فبراير الماضي يفنّدون فيها مزاعم الجزائريّ كمال داود، الذي لبس لبوس المفكر الكولونيالي القديم لينصح الغرب عقب أحداث كولونيا، بضرورة تثقيف العرب والمسلمين بالقيم الغربية قبل منحهم تأشيرة الدخول، فانهالت عليهم من كلّ صوب اتّهامات بمحاولة تكميم “صوت مفكر حرّ” وهجومات لم يتأخر عنها بعض الفلاسفة وحتى رئيس الحكومة مانويل فالس، وكوفئ داود بجعل مقالته التي يشتم فيها العرب والمسلمين أسبوعية، بعد أن كانت نصف شهرية، ليواصل ممارسة حقه في التعبير، الذي يُنكرونه على الآخرين.

ولمسناه أيضا في موقفهم من تصريح فسّر فيه لاعب ريال مدريد كريم بنزيمة استبعاده من المنتخب الفرنسي بأنّ مدرّبه إنّما فعل ذلك خضوعا لجانب من العنصريين الذين شنّوا ضدّه حملة منظمة ساهمت فيها أطراف عديدة، من النخبة السياسية والرياضية والإعلامية ومعاهد استطلاع الرأي، والرجل لم يشتم أحدا ولم يقلْ أكثر ممّا اعترف به رئيس اتحاد كرة القدم الفرنسي عن نوعية الرسائل الطافحة بالعنصرية التي كانت تصله يوميّا.

ولمسناه أخيرا في موقف الأحزاب وبعض الشخصيات السياسية من جدارية لِغُو- إنْ فنان الستريت آرت الفرنسي عنوانها “الدّولة تعنّف الحرّية”، تُعرض حاليا في مهرجان أفينيون لفنون الشارع وتُظهر شرطيين ينهالان بالعصيّ على ماريان، رمز الجمهورية الفرنسية، وهي واقعة على الأرض ترفع يدها مروَّعة لتتقي ضربةَ مَن يحمل درعا كتب عليها 49.3، إشارة إلى بند من الدستور الفرنسي أتاح للحكومة تمرير قانون الشغل بالقوة دون الرجوع إلى البرلمان.

فقد تهاطلت التنديدات على الفنان ومدير المهرجان ورئيس بلدية المدينة تطالب بمحو الجدارية. وفي ردّ ساخر على تغريدة لوزير الداخلية دعاه فيها إلى الاعتذار لأعوان الأمن، صرّح رئيس البلدية “ينبغي أن يُعدّ السيد الوزير قائمة في الأعمال المرخّص لها أم لا”. مضيفا أنه من المؤسف أن يطالب هؤلاء القوم بالمنع بعد عملية شارلي إيبدو.. قد نتفهّم تأثّر أعوان الأمن، ولكن حرية التعبير من الأسس الجوهرية للجهمورية”.


أبو بكر العيادي :كاتب من تونس مقيم في باريس

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات