“بؤس الفكر” كتاب ينتقد الفلسفة من الداخل، لا سيما تلك التي تُدرَّس في الجامعات اليوم، فمؤلفه روبن فورتان لاحظ، من خلال تجربته في جامعة كبيك، أن تدريس هذه المادة ينحصر في تاريخ الفلسفة، أي تدريس ما قاله وكتبه كبار المفكرين، مثلما لاحظ أن حقل الفلسفة ما انفك ينحسر مقارنة بالعلوم التي سمحت بتقديم البراهين على صحة بعض النظريات، وإلغاء الخاطئ منها، والمعروف أن النظريات العلمية قابلة للتطور مثلما هي قابلة للدّحض، أما الفلسفة فلا تقترح غير نظريات متعاقبة، ومن ثَمّ لا تستطيع أن تضفي شرعية على خطابها إلا بالإحالة على نفسها والعودة إلى النصوص المؤسسة، أي بالرجوع إلى خطاب كبار المؤلفين.
والسبب في نظره أن المتخصصين في الفلسفة لا يريدون أن يعرفوا ما إذا كانت هذه النظرية الفلسفية أو تلك صحيحة أم خاطئة، لأنهم لا يهتمون في الواقع إلا بما قاله هذا المفكر أو ذاك والكيفية التي صاغ بها قوله، دون مراعاة ما إذا كانت رؤيته للعالم لا تزال صائبة، أم فقدت راهنيتها. إضافة إلى سبب آخر هو وجود المشتغِل بالفلسفة أمام خيارات محدودة: إما أن يكون نخبويّا يحصر جهده في بعض الرموز، أو يتخصص في فرع من الفروع كالإبستيمولوجيا والمنطق والإيثيقا، أو يعكف على تدريس فلاسفة الماضي.
وبذلك حادت الفلسفة عن مجراها، فبعد أن كان دورها التفكير في المسائل الأساسية الكبرى، وشحذ الوعي النقدي، والتأهيل للدفاع عن القيم، فقدت القدرة على حفز المرء على الالتزام الفكري، لأن المفكرين الكبار صاروا أهمّ من القضايا، ولأن التعليم في الفصل بات نوعا من الموسوعية الثقافية التي توهم بممارسة فلسفية حقّ.
ولكي يقيم الدليل على جدية طرحه، يُخضع فورتان نظرياتِ ستة من الفلاسفة الكبار هم على التوالي: أفلاطون وأرسطو وديكارت وروسو وهيغل وهيدغر لنقده هذا، ليبين أن خطابهم عفا عليه الزمن لاحتوائه على حقائق لا يقبلها العقل ولا المنطق، أو هو ببساطة أجوف لا يحمل في طياته ما يساعد إنسان هذا العصر على فهم العالم.
وفي رأيه أن الفلسفة صارت الماثلَ الحيّ (بمعنى تمثال عرض الملابس) لما كانت عليه، ومتحفا تتكدس فيه الأنتيكا، لأن أساتذة الفلسفة يحللون النصوص الفلسفية ويتأوّلونها على نحو يدفع الطلبة إلى الانخراط في عالم المضاربات والمجرّدات.
فبدل التركيز على تأمل المسائل الجوهرية والبحث لها عن حلول، بالانفتاح على العلوم المعاصرة، اختار أساتذة الفلسفة ترديد ما قيل باستعمال خطاب تشوبه الثرثرة والمصطلحات المعقدة.