يعاب على الكتّاب انتصارهم للمهمشين والمعوزين، واجترارهم ثيمة سبق أن عالجها كثير من قبلهم، لعل أشهرهم فكتور هوغو.
ويتناسى اللائمون أن الكتّاب ينطلقون من الواقع في تصوير مآسي البشر، ولا سيما إذا كانوا هم أنفسهم يتحدّرون من أوساط متواضعة، فيعبرون عن معاناة تلك الفئات الضعيفة أمام جشع الفئات الميسورة للنفاذ إلى جوهر الإنسان، فـ”من يبحث عن حقيقة الإنسان ينبغي أن ينفذ إلى ألمه” كما يقول جورج برنانوس.
والفقر ألمٌ يجهد الفقراء للتخلص منه، ولكنه في نظر الأغنياء داءٌ يقيمون ضدّه حواجز تَحول بينهم وبين من أصيبوا به، لا خوفا من العدوى، بل تجنبا لمرأى البؤس. وإن صادف أن تبرعوا أو أبدوا نوعا من التعاطف والتضامن، فعن بعد، بطرق غير مباشرة.
هذا الحاجز الأخلاقي بين الفقراء والأغنياء ليس حكرا على واقعنا العربي، بل هو حالة عامة في سائر الأمم، حيث للأغنياء نفس الاستراتيجيا ألا وهي تجنب الفقراء.
ذلك ما أثبتته دراسة ميدانية أجراها بعض الباحثين الفرنسيين، في باريس وساو باولو ودلهي، تحت إشراف عالم الاجتماع سيرج بوغام، وصدرت مؤخرا في كتاب بعنوان “ما يحمله الأغنياء عن الفقراء”.
لا يقتصر الحاجز على السكن في حيّ محميّ بالمستوى الاجتماعي المرموق للمقيمين وثمن العقارات الباهظ، وكلاهما يناسب البحث عن إعادة إنتاج فئة مجتمعية راقية، بل يتعداه إلى الحرص على المنَعة من أنماط عيشٍ “دنيا”، إذ يعزل الأغنياء أنفسهم في عالم خاص بهم، يتخذونه مثالا لإنتاج نظام أخلاقي يسود حيهم أو دائرتهم أو مدينتهم.
ويتغذى نظام الفصل هذا أيضا بالاشمئزاز من المعسِرين في هيئتهم ولغتهم ونمط عيشهم، والإحساس بعدم الأمان بقربهم، مثلما يتغذى بتبرير الفقر تبريرا لا تجوز امتيازاتهم من دونه، ويقوم خطابهم على عنصرين: أولهما القول بتأصل الفقر، أي أن مصير الفقراء محكوم بقوانين حتميةٍ بيولوجية أو جينية، وما وجودهم في الطبقة السفلى إلا نتيجة لتلك القوانين.
والثاني القول بالاستحقاق، أي الاعتقاد بأن الأوضاع الاجتماعية تأتي على قدر أهل اليسر أو العسر، ولو بالوراثة. وبذلك يصبح نظام الفصل الاجتماعي أمرا محتوما في نظر الأغنياء.
فكيف لا ينتصر الكتّاب لفئة ظلمتها الحياة والمجتمع، وتُرمى بالظنون بغير وجه حق؟
يقول الشافعي:
"يمشي الفقيرُ وكلُّ شيءٍ ضدَّه | والنّاسُ تُغلِق دونَه أبوابها/ وتراه مَبغوضاً وليس بمُذنِبٍ| ويرى العداوةَ لا يرى أسبابها/ حتى الكلابُ إذا رأت ذا ثروةٍ | خَضعتْ لديه وحـرّكت أذنابَها/ وإذا رأتْ يومًا فقــيرًا عابرًا | نبحتْ عليه وكشّرتْ أنيابها".