ليس من المنصف أن يفهم كلّ مشروع هيكلة على أنه ترجمة لوجود قصور في سير الأسلاك الحاليّة، فالمشروع لا يعدو أن يكون إعادة وضع الإدارة العامة للشؤون الجهوية تحت إشراف وزارة الداخلية بعد أن تمّ إلحاقها بمصالح رئاسة الحكومة سنة 2016.
ولئن يبدو إجراء إعادة الادارة المعنية بسيطا فمسؤولية إشراف الوالي على الأمن تبقى "ثقيلة" إذا ما كانت "كاملة" وليس مقتصرة على رئاسة المجلس الأمني الجهوي والتنسيق بين هياكل قوات الأمني الداخلي. وقد خبرنا هذه التجربة لسنين طويلة في مهامنا القيادية الجهوية قبل المركزية وفي رأيي أنّ العودة إلى الوضع السابق قرار صائب وإجراء مطلوب ولكنه يحتاج في الظرف الراهن إلى تحديد دقيق لهذه المسؤولية.
وما دمنا نتحدّث عن وزارة الداخلية ورغم النجاحات التي تحقّقت بهيكلتها الحالية وفقا للنتائج المعلنة ولتقدير السيد الوزير، فلا بأس من توسيع هذا الرأي والتقدّم بالحوار حول الموضوع اعتبارا لما تشهده البلاد من تراجع في السيادة وتزايد في التهديدات وتمييع الهوية الوطنية1 .
فالتفكير في الاصلاح والتوجّه نحو الأفضل ليس ضربا من الخيال بل هو ضرورة حتمية تمليها تأثيرات ماضي الوزارة وحاضرها ومستقبلها، ولكي ننجح في ذلك ينبغي التركيز على تناسب الخيارات المعتمدة مع الواقع الأمني المتغيّر وليس فقط على توحيد اختصاصات أو هياكل، فقد تمّ سابقا تبنّي البعض من هذه الأفكار التي سرعان ما تمّ التخلّي عنها، فلكل سلك موروثه وخصائصه ودوافع بعثه وتقاليده المتينة ولو أنها تنتمي كلّها لمعقل سيادي واحد وتشترك في تأدية رسالة نبيلة واحدة.
وفي اعتقادي أن الحديث عن إعادة الهيكلة يتطلب إحياء ديناميكيّة إصلاحية مستمرّة تبحث في سبل تطوير العمل الأمني في سياق التهديدات القائمة وخاصة على مستوى ممارسة السلطة والتعاون مع المؤسّسة العسكرية ومد جسور التواصل مع المجتمع.
ولئن كان الوقوف على النقائص متيسّرا فان تقدير المخاطر سيظلّ صعبا، وخاصّة في مناخ يسيطر عليه الترقّب والخوف والحذر، وهذا ما لمسناه بعد خطاب السيد رئيس الجمهورية في ردود فعل المواطنين وتفاعلات السياسيين.
والمعلوم أنّ الدولة بحكم أنها أداة سياسيّة فهي بالضّرورة وقبل كل شيء منطلق جميعَ الإصلاحات الأمنية، ولها تبعا لذلك دور تحكيمي بين المصلحة الوطنية ذات الأولوية ومصلحة المجتمعات المحلية، وهي منذ نشأتها تاريخيّا وتسميتها بـ"الجمهورية" في اللغة اللاتينية تعرّف " بأنها مجتمع هدفه المشترك تحقيق الأمن". وعلى هذا المعنى فانّ حجم ومستوى الأمن الذي تنعم به أيّ دولة ينعكس مباشرة على قدرتها في توفير المتطلّبات الأساسيّة للأفراد والجماعات الوطنيّة السّياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي تقديري أنّ طبيعة هيكلة ومهام وزارة الداخلية ليست بمعزل عن انتظارات المواطن التي تتلخّص في تحقيق الاستقرار الأمني ودفع التنمية والاستثمار وهما الأساس مع التحكّم في التّجاذبات السياسية.
ولعله من المفيد التذكير في نفس السياق بتوسّع المفهوم الأمني منذ بداية التسعينات وتبنّي المؤسّسات العسكرية إيّاه دوليّا في إطار تطوير قدرات الجيوش على الاضطلاع بمهام استثنائية نظرا إلى تزايد العنف السياسي وتغيّر نمط النزاعات الى حروب ضدّ شبكات2 . كثيرة ومتعدّدة هي الأدبيات المتعلّقة إسهام الجيوش على مستوى المراقبة وحماية الحدود ومؤسّسات الدولة وغيرها، مع الاستعانة بقدراتها في مجالات الاستعلامات والاتّصالات والتجهيزات. ولئن كان اعتماد هذا الخيار ليس أمرا جديدا في تونس فلا بأس من مزيد التّوضيح لتبديد المخاوف، وأعتقد أنّ هذا ممكن مع مؤسّسات قامت على قيم عليا ألا وهي" الوطنية والانضباط ".
علينا أن نحترم الدولة وندعّم مؤسّساتها، فتصنيف بلادنا ليس جيّدا3 ، وانهيار الدّول قد لا يكون بالضربة القاضية بل بالتّضييق عليها وتعجيزها على تفعيل الامكانات الكبرى الكامنة في مجتمعاتها.
العقيد محسن بن عيسى: متقاعد من سلك الحرس الوطني
1- تترجم الهوية روح الإنتماء للوطن ورفعة الشعوب وتقدّ مها وإثبات وجودها من عدمه.
2 تضمّن كتابي الجديد " الإرهاب: من العنف السياسي إلى التهديد الإستراتيجي" والجاري طبعه لدى الدار المتوسّطية للنشر، شرحا لهذا المفهوم الجديد الداعم للتعاون الأمني والعسكري في مكافحة الإرهاب.
3أنظر تقرير مؤشّر الدول الفاشلة (Fragile States Index 2016) الذي تحتل فيه تونس المرتبة 88 ضمن مجموعة البلدان ذات "التحذير المرتفع".