تحوّلت " الحرب على الفساد1 " في الآونة الأخيرة إلى شعار لمرحلة سياسية وعنوان لتعبئة الرأي العام. وتتنزّل في هذا السّياق الشّبهات التي تتداولها الشّبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام والتي طالت شخصيّات سياسية ومسؤولين في مؤسّسات الدولة و بعض الأحزاب.
وجاءت هذه الممارسات لتعطي إشارات سلبيّة، فمجريات الأحداث تبرز وجود سوء ممارسة للسّلطة وضعف في الإحساس بالمسؤولية.
و لا يشكّ أحد في دور ومكانة مؤسّسات الدولة وهياكلها، ولكن يكفي أن يتجاوز أحد المسؤولين نفوذه ويستغلّ السلطة في غير وجهها حتّى يفقدها مقدارا من مصداقيّتها ومكانتها.
وإنّه لمن السذاجة بمكان أن يُفترض في رجال السياسة والإدارة أن يكونوا مثاليّين في كلّ الأحوال والأزمنة، فمنهم للأسف الشّديد من لا يرى مانعا في استغلال سلطته ونفوذه أو حرجا في ربط علاقات مشبوهة على حساب الوطن. وهذا السّلوك ليس ظاهرة جديدة، إلّا أنّ طرح الموضوع في الظّرف الرّاهن يؤكّد تواصل وجود الخلل ويلمّح إلى سلوك المسؤولين الحاليين و ما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان من تواطؤ أو عجز.
صحيح أنّ الحوار الجاري حول مقاومة الفساد يتمّ في سياق جديد، فنحن في حقبة من الإصلاح يعتبرها المفكر والسياسي والأستاذ بجامعة هارفارد "صمويل هانتيغتون" الموجة الثالثة من التحوّل الدّيمقراطي في البلدان النّامية والبلدان التي تمرّ بفترة انتقالية، ولكنّ الدولة كتنظيم إنساني وحضاري كانت ولا تزال قائمة كمرجع ومنطلق لتحديد السلوك التنظيمي عبر التّشاريع واللّوائح لحماية مؤسّساتها وملاحقة المتلاعبين بهيبتها ومصالحها.
فالدّول تحافظ على سيادتها باعتماد عنصرين أساسيّين هما القانون والقوّة، أي قوّة القانون أو قانون القوّة إذا لم يتمكّن القانون من تأدية مهامه.
ومن الأدبيّات السّياسية الشّائعة اليوم أنّه لم يعد هناك مفرّ أمام الدولة لتستمرّ وترسّخ هيبتها من أن تبدأ بدراسة إمكانية التغيير في السّلوك الوطني بشكل عام، ولدى المسؤولين والقيادات بشكل خاص، هذا السلوك الذي لا يعدو أن يكون محصّلة لجملة القرارات و الاستراتيجيّات الوطنيّة المعتمدة ومن ذلك سياسة التعيينات وإسناد المسؤوليات.
وفي هذا المجال تؤكّد " شانتال دلصول2 " أستاذة الفلسفة وصاحبة كتاب السلطة أنّ " إسناد رتبة أو خطة أو تكليف بمسؤولية على معنى الكفاءة لا يكفي, فالمباشر للسّلطة عليه أن يعمل ليرتقي بها ويبرهن على أنّه أهل لها ".
والسّلطة باعتبارها الأداة التي تسيّر شؤون الدّولة بموجب القوانين لا تقف عند الظواهر الاقتصادية والعسكريّة والسّياسية، وإنما تمتدّ إلى مختلف مجالات الوجود الإنساني وخاصة المعرفة والشرعية والاعتراف بالنظام. وللمسؤول دور كبير في تكريس هذه المبادئ وبناء علاقة وطيدة مع المواطن علاقة تقوم على الثقة والاحترام والالتزام بالقانون والخضوع له بكل مسؤولية مهما كانت طبيعة العمل والمرتبة والوظيفة ".
لقد حاول الفلاسفة والمفكرون ضبط شروط محافظة السّلطة السّياسية على نفسها ومن ضمنهم "جوليان فروند3 " الفيلسوف وعالم الاجتماع حيث يشير إلى " أن تآكل السلطة يعدّ من أبرز إشكاليّات الدّيمقراطيات.. ذلك أنّ السّلطة هي أساسا كفاءة في أداء الوظيفة أو لا تكون ..والوصول إليها لم يعد يمرّ عبر هذه الكفاءة بل عبر مسالك أخرى.. فرجل الدّين لا يريد وظيفته الدّينية بل يريد أن يكون مصلحا داخل المجتمع، والأستاذ لا يريد وظيفته كمربّ بل يريد أن يكون نقابيّا.. فالكلّ لهم تطلعات ثانية.
صحيح أنّ لكلّ نشاط بشري غاية, ولكنّ تداخل الغايات واختلاطها هو الذي يؤدّي إلى تآكل السّلطة .. أو تحوّلها إلى تسلّط, و هنا يظهر العنف (استغلال النفوذ ) وتنهار الديمقراطية ".
من المهمّ إقرار معايير صارمة في اختيار القادة والمسؤولين وتثبيت مبدأ " جدارة تولّي المسؤولية "، فالتنكّر للواجب سلوك يصعب التعايش معه والقبول به ولا نرضاه لأنفسنا. يمكن للإنسان أن يخطئ و يضعف ويجد مبرّرا لأفعاله إلاّ خيانة الوطن فهي جريمة لا تغتفر.
1- الفساد مصطلح جامع يضم كافة أشكال السلوك غير الشرعي كالرشوة والاختلاس واستغلال السلطة والابتزاز والإثراء غير المشروع والإتاوات والمتاجرة بالنفوذ، فضلا عن الأنشطة المرتبطة بمباشرة أنشطة فاسدة أساسية.
2- راجع: شانتال دلصول، كتاب السلطة 1994.
3- جوليان فروند، فيلسوف وعالم اجتماع اجتماع فرنسي (1921-1993).