القوة العمومية: إرادة جماعية ورسالة إنسانية

Photo

لا شك أن هناك علاقة جدلية بين النظام العام و القوة العمومية، فمصطلح حفظ النظام هو مصطلح قانوني يعبّر على مختلف الإجراءات التي تتخذها الدولة لضمان سلامة مواطنيها وممتلكاتهم والحماية من كل المخاطر التي تهدّد كيانها ومصالحها واستقرارها. ورغم اتفاق رجال القانون على صور النظام العام1 إلا أنهم يرون صعوبة في تحديد مفهوم له لمرونة هذه الفكرة ونسبيّتها الزمانيّة والمكانيّة.

ومن خلال الرجوع إلى القانون الأساسي العام لهياكل الأمن الداخلي والقوانين الأساسية الخاصة بكل سلك يتبيّن انعكاس هذه المرونة على توصيف "قوات حفظ النظام العام" وتعدّد المصطلحات المعتمدة: " قوة عمومية"، "قوة مسلحة مدنية" مع تفرع الهياكل إلى أسلاك مدنية وأخرى نظامية .

واعتبارا لما اتسمت به بعض المصطلحات المعتمدة من عمومية و لما تميّز به البعض الآخر من تخصيص ووضوح، ودون معارضة للرأي القانوني القائل "أن المعنى الاصطلاحي للمفاهيم .. وان اختلف عموما عن معناها اللغوي، فانه ليست هناك جفوة بين هذا المعنى وذلك طالما أن المعنى الاصطلاحي يذكر بالمعنى اللغوي2 " ، ارتأيت الحديث في هذا المقال ومن منظور أمني عن مصطلح "القوة العمومية"، على اعتباره مثل النظام العام مستمدّ من الارادة الجماعية وقائم على احترام الحريات العامة والفردية مع بيان وجهة نظري في مصطلح" قوة مسلحة مدنية".

فالمتعارف أن قيمة المؤسّسات وهياكل الدولة هي من قيمة من يتولّى شأنها، و كذلك من قيمة النصوص التي تَحكُمها، فالنص المرجعي يقود الممارسة في المطلق لينتظم بعد ذلك الأداء ويَتفعَّل.

• مصطلح "القوّة المسلحة المدنية":

لقد أورد القانون الأساسي العام عدد 70 لسنة 1982 مصطلح " قوة مسلحة مدنية" في فصله الأول كالآتي: "إن قوات الأمن الداخلي هي قوة مسلحة مدنية يخضع أعوانها إلى أحكام هذا القانون الأساسي العام والقوانين الأساسية الخاصة بكل سلك".

وفي رأيي أن هذا الخيار يتطلب المراجعة على اعتبار أن اللجوء الى هذا المصطلح كان مردّه ربما بيان الفرق بين الهياكل الأمنية والقوات العسكرية، على غرار التمييز بين المحاكم المدنية والمحاكم العسكرية، وعموما فهو فاقد للملائمة ومثير للغموض والالتباس على مستوى الأمن بشكل عام.

لقد تطوّرت المؤسسة الأمنية تحت تأثير التجارب التي مرت بها، ولم تتطور بالتوازي المصطلحات لديها كتعابير لها أبعاد متجذّرة في ثقافتها، و بكل تجرّد فـمصطلح "قوة مدنية" وبالنظر لمعناه اللغوي ليس له أي دلالة أمنية، هذا فضلا عن عدم خضوعه للحقول المعرفية الأمنية (النظريات الأمنية – العقيدة الأمنية..).

وفي تدرّج لفهم هذه المسالة، تعتبر "القوة المدنية" في المطلق نتاجا للقوة العلمية من حيث امتلاك أسباب العلم والتكنولوجيا، والقوة الاجتماعية التي تتحقّق عبر سياسات التربية والتعليم والثقافة، والقوة الصحية التي توفر للشعب أسباب الوقاية والعلاج، والقوة الاقتصادية التي تقوم بحاجات المجتمع، والقوة الاعلامية الكفيلة بالتعريف بالدولة وشعبها، وهي مجالات تعود مسؤولياتها لهياكل الدولة المدنية وتدين بها منظمات المجتمع المدني ولا تندرج ضمن الرؤى والقيم الأمنية التي تتركّز أساسا على الدفاع عن الدولة وتنفيذ القانون. هذا فضلا عمّا يمكن أن يوحي به هذا التعبير من تنظيمات شبه عسكرية، متطوّعون في مناطق توتّر أو في إطار حروب أهلية، أو مهن حرّة في السلامة كالشركات الأمنية.

وفي كل الحالات نجد أنفسنا في نسق مغاير لواقع الهياكل الأمنية التي هي بالأساس هياكل نظاميّة أي قوى عمومية منظّمة تشرف عليها الدولة للسهر على الأمن والسيادة والنظام .

• مصطلح "القوة العمومية"

أصبحت القوة العمومية منذ اقرارها ضامنة لقوة القانون بحكم ارتباطها بالسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وبمقتضى ذلك أصبح إعتماد المصطلح تأكيدا على أن هذه القوة ليست بيد "الحاكم" أي "الإرادة الفردية3 " لتصبح قوة خاصة يُستنجد بها للتّسيير الأحادي لأمور الدولة، وإنما هي خاضعة "للإرادة الجماعية4" أي " الارادة العامة "، مصدر السلطة وصاحبة القرار وعلى هذا المعنى فهي قوة وطنية في خدمة الشعب، وفي هذا الصدد يقول جان جاك روسو "الذين يتحصّلون على السلطة التنفيذية ليسوا أسيادا للشعب وإنما موظّفوه والشعب بوسعه رَفعُهم عند الرغبة في ذلك".

ولتثبيت هذه الغاية وضمان استمرارها تحتاج " القوة العمومية" أن تكون موحّدة مثل السّيادة على المستوى الوطني، وبالتالي لا يمكن أن تكون إلا في خدمة الشعب وحماية الوطن وقيمه ومكتسباته، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تعمل ضده. و أمام تعددّ أوجه هذه القوة عالميا فان التميّز الذي يمكن أن تبرز به هذه القوة او تلك هو ضمان استقرار الدولة وإشاعة الأمن النابع عن خيارات صائبة ومعبّرة عن رأي الجميع وفي مصلحة الكل.

ومن البديهيات لإنجاح الرسالة الأمنية أن تنسجم المصطلحات الأمنية مع عمقها التاريخي، فالهيكل الأمني منذ تعريفه كقوة عمومية يصبح حاملا لقيم انسانية " حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة التي لا تُنقَض" شأنه في ذلك شأن الهياكل المماثلة له دوليا وذلك وفقا للمادة 2 للاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1789 والتي تنص على أن: " ضمان حقوق الإنسان والمواطن يستدعي وجود "قوة عمومية"، وتشكّل هذه القوة للسهر على مصالح الجميع، وليس على مصلحة أولئك اللذين أوكلت إليهم تلك القوة".

مخطئون أولئك الذين يستوحون الماضي ويبالغون في استيحائه، ولكن من المهم تأمل التاريخ واستخلاص العبر منه، لذلك جدير بنا اليوم أن نذكّر وأن اقتران اسم "الحرس" و"الشرطة" بلفظ "الوطني" و "الوطنية" إلا إيحاء رمزي لهذه الروح التي تَحَلَّو بها مؤسّسي هذا الأسلاك وأثبتتها جَبَهات المقاومة وبناء الدولة الحديثة وتتواصل اليوم المجابهة ضد الجريمة والإرهاب والفساد.

ولعل أهم ما أفضى به هذا العرض هو أن أبعاد القوة العمومية تجسّدت على أرض الواقع لدينا وتحتاج مزيد التكريس كأداة توازن وتناغم وانسجام بين القوة والقانون، وأن تاريخ الأمن معركة طويلة الأمد، بل معركة لا تنتهي إزاء الظلم والتسلّط والعنف وشبكات الاجرام وقوى الظلام وأهل الفراغ، وهي قضايا واهتمامات لا توحي بها المصطلحات الأخرى.

لا يكفي أن نزن ونعتبر ما خلّفه قدمائنا، بل يجب علينا أن نأخذ عنهم أسمى تقاليدهم .


1- النظام العام : الأمن العام، السكينة العامة، الصحة العامة والآداب العامة.

2- راجع: البشير التكاري، مدخل إلى القانون الإداري، المدرسة القومية للإدارة، مركز البحوث والدراسات الإدارية، نونس، 2000.

3- ومن ذلك الحكم الفردي وهو من أقدم صور تسيير شؤون الدولة، ويتصرّف فيه الحاكم تصرفا كاملا لا يقيده قيد إلا ما يضعه هو بنفسه.

4-تعود فكرة الارادة العامة التي تعني إرادة الشعب ككل إلى الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو"، في القرن الثامن عشر، ووردت في المادّة السادسة من إعلان حقوق الانسان والمواطن سنة 1789.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات