"الشّاهد.. والبولينق السياسي"

Photo

لست من هواة المؤامرة ولكنني أيضا لم أكن يوما مُستسلما للأطباق الإعلامية المقدّمة. وبعيداً عن متعة مشاهدة ارتفاع درجة الإثارة (بالمعنى السينمائي)، يبقى عصيّا على فهمي استيعاب أن يوسف الشاهد قرر فجأة محاربة الفساد واختيار تونس (كما لقّنوه(. كيف لمن كان يُقال عنه "شاهد ما شافش حاجة" أن يصبح أنشط خلق الله في محاربة الفساد؟

سنحاول قلب الصورة، مثلما تفعل شبكية العين، من أجل أن نرى المشهد بشكل سليم، ثم نعيد تشكيله من جديد. نقطة النهاية في المشهد، هي حكومة في أضعف حالاتها وقد كشف اعتصام "الكامور" وهنها وعجزها وقلة حيلتها، فقد مسّ المعتصمون وهم يقطعون "الضخ" اللّحم الحّي، لحم أباطرة النفط في تونس ووكلاء أباطرة النفط في العالم، في الخلفية تناحر لم يهدأ بين شقوق النداء، ووضع اقتصادي متردّي منذ سنوات يكاد يعصف بحكومة الشاهد كما عصف بغيرها.

كل هذا المشهد المتأزّم والشبه منهار ينقلب في لحظات وبحركة بهلوانيّة لا يتقنها إلا معلّم (يصعب ان يكون الشّاهد صاحبها) يضرب كل الحجر برمية واحدة. حركات بهلوانية وضوضاء إعلامية حولها تسحب الأنظار من الكامور إلى العاصمة، وفي يومين تتساقط أسماء كبار رجال الأعمال ممن ظن بعضهم أنهم غير قابلين للّمس، كيف لا وهم أصحاب فضل على من هم في سدّة الحكم اليوم، لكن أليس من باب أولى أن نتساءل عن ماهية من وقع القبض عليهم؟

للإجابة، لا بدّ أن نحفر بعيداً في طبقات تشكّل رجال الأعمال في تونس. ثمة طبقة ترعرعت وتمعّشت في السبعينات مع انفتاح الهادي نويرة (كان فيها أيضا نواة النسيج الاقتصادي القائم الآن كي لا نظلم الجميع) وهي عائلات بعينها نراها اليوم متحكّمة بعديد القطاعات وزاد نفوذها وفسادها مع بن علي خاصة في الفترة الأولى من حكمه، عائلات ينحسر تموقعها الجغرافي بين قوسيْ الضاحية الشمالية بالعاصمة والقنطاوي بجوهرة الساحل، وينحسر بين جنباتها معظم الرّيع الوطني.

من سمات هذه الطبقة أنها متغلغلة في الإدارة وفي كواليس السياسة ولها علاقات دوليّة متينة، لكن من ميزاتها أيضا أنها خلقت الثروة والنمو لكن بتفاوت جغرافي. وثمة طبقة ثانية نشأت في زمن المنصف بن علي الأخ الأكبر للرئيس الفارّ، ثم مع أصهاره الطرابلسية وهم فئة من السماسرة والمهربين. هؤلاء، لم يخلقوا ثروة بل كانوا فُتوّات في سوق الأعمال في تونس، واستعملوا الإدارة دون اختراقها.

الطبقتان -كما يفرض ذلك منطق تقاسم كعكة السوق التونسية- كانتا في عداء متخفٍّ زمن بن علي والذي كان حكماً بينهما، ولكنـه طفى على سطح الأحداث بعد الثورة حيث حاول كل طرف التمترس في المعادلة الجديدة للحفاظ على مصالحه، حتى وصل ذروته في ثنايا الحزب الفائز في انتخابات 2014. عندما تقرأ قائمة الموقوفين تعرف أي طبقة مستهدفة من هذا الإجراء الاستعراضي. إنهم المهربون والسماسرة لا غير.

أما الفساد المتغلغل في مفاصل الدولة ورأس السلطة فلن يطاله شيء لأنّه ببساطة مُوضّبُ ديكور هذه المسرحية. بضربة معلميّة (بلغتنا العامية)، ها هم ينقذون "الشاهد" ويسعفون حكومته وحزبه بكمية أوكسجين، لتأتي وسائل الإعلام وتحفر في وعينا -المترهل أصلا- صورة المنقذ والزعيم الذي أقسم أنه سـ"يقف لتونس"، من جانب آخر، يجري التخلّص من خصوم تاريخيين في ساحة التموقع في دولة الفساد، وهم من كانوا يرونهم مرتزقة ولصوصاً لا رجال أعمال، فهي إذن معركة بين جناحين لا ناقة و لا جمل للشعب فيها، بنفس كُرة الأراجيف و البروباقندا ها هم يردمون مطالب القابضين على الجمر في "الكامور" وسط كومة من الأخبار حول الموقوفين، والجميع بات ينتظر فقط من هو الاسم القادم في القائمة.

هذا الغبار هو كل ما يحتاجونه لإلهاء الناس عن القضيّة الأم والملف الحارق (مقدّرات هذا الوطن) ريثما يجري إعادته إلى رفوف الأقبية المظلمة.

أخيرا حين تَلبس السلطة قناع الأخيار ومقاومة الفساد تُلبس في نفس اللحظة قناع التخوين لخصومها وكل من يشكّك في مساعيها أو يتردّد في أن يكون طابورا خامسا لها، هي تسحب من المعارضة خزانها ورصيدها ذو النفس النضالي المقاوم للفساد. لكل ما سبق لا نصدّقهم، هي في كلمات.. مافيا السبعينات.. تطيح بلصوص التسعينات..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات