كان مشهدا مغايرا للسائد الرتيب.. تنازلت القيادات التاريخية للمعارضة وطواعية عن شرف الرّيادة وأبّهة الصفّ الأول، وانخرطت في مسيرة تحت راية مجموعة من الشباب سيكون عصيّا توصيفهم ضمن قاموس السياسية التقليدي.
خروج التحرّك عن المتوقع جعله يربك منظومة بأكملها. وترسُّخُ شعار "مانيش مسامح" أكثر فأكثر في الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، وتواجده في أكثر من فضاء (نذكر معرض الكتاب ومدارج المهرجانات والملاعب)، جعله مصدرا لخطرٍ إستشعره العقل الأمني الإستباقي، عقل أمني لنظام ظننّا أنه بائد، لكن أعاده استثمارٌ في الجهل والفقر غُرس في ثمانينات القرن الماضي.
من أول يوم، حاولوا التضييق على تحرّكاتها كي لا تنمو أزهار الأمل في بلدٍ يُراد له أن يبقى منصة للـ"حرقة" لا غير، آخر مسلسل التضييقيات تجاه منتسبيها كان مع مازن العوجي. ولم يكن صدفة أن يجري إيقافه من داخل جماهير كروية.
لماذا يرعبهم هذا الشباب إذا انتظم؟ لماذا يخشون تنامي الظاهرة؟ أسئلة أجابت عنها مسيرة "مانيش مسامح" الأخيرة في شارع الثورة وفوق مدرج المسرح البلدي الذي أصبح معقلاً لهم.
يخشون ظاهرة "مانيش مسامح"، لأن من يلتفّ حول جذعها شرائح مجتمعية ظنّ النظام أنه دجّنها أو سطّح اهتماماتها اليومية.. فتجد فيها الموظف الذي وقع جرّه إلى قفص الاقتراض المتوحش فكتم كل تعبيرة سياسيّة داخله، ولكنّ تلاشي أفق العيش الكريم مع الحكومات المتعاقبة والتحاقه تدريجيا بطوابير الفقراء جعله يمزق قميص الخوف، فلم يبق شيء يُخشى عليه.
وتجد فيها شبابا لم يجدوا أي هيكل حزبي أو مدني يلبّي تطلعاتهم أو يجسّد رغبتهم في التأثير السياسي. وتجد فئة من المتعلّمين الذين كانوا في الغالب ينفرون من كل تمثّل سياسي، ولا يجدون فضاءً لإخراج ما يعتمل في صدورهم. وتجد من كانوا في زخم الثورة ثم وجدوا أنفسهم على هامش الأحداث والوطن.
كما تجد فيها (وهم سوادها الأعظم) ذكورا وإناث، بتسريحات شعر غريبة، وسراويل ممزقة، وغير ذلك مما يمكن أن يحسبه المواطن الذي تأقلم جيّدا مع وضع البلاهة والبلادة السياسيّة (هكذا تريده السّلطة) ميوعة وخروجا عن العرف والأخلاق، وهي مظاهر في الأصل تعبّر عن تمثّل لموقف ثائر عن المشهد المجتمعي.
جوهر الثوريّة هذا (رغم أدران السيستام)، هو من جلبهم للوقوف ضد عمليات المقايضة الرخيصة بين نظام نخره سوس الفساد (كما تشير إلى ذلك إحدى أغانيهم)، وفاسدين قوّامون على هذا النظام ويتبادلون معه الخدمات.
هذه التشكيلة أنتجت منطوقاً سياسياً مختلفا عن كل ما تعوّدته الساحة التونسية، فكسر رتابتها التي تؤثثها نخبة خاوية على عروشها. منطوق يعتمد خطاباً مباشراً وبسيطا، وإن بلغ أحياناً شيئا من البذاءة، كتعبير ملتصق بملح الأرض وأهلها، فهي مزيج منشأهُ غبن الأحياء الفقيرة التي تشكّل حزام بؤس حول العاصمة.
إنها لغة تتقاطع مع أهازيج الملاعب، ربما لتقاطع الشرائح المكوّنة. لا ننسى هنا أن أوّل مظاهر التجرّؤ على آلة القمع الأمّنية في تونس، قبل تحركات سيدي بوزيد نهاية 2010، كانت في الملاعب حيث كانت لحظات ينتفي فيها الخوف من بوليس بن علي. كل الخشية كانت ولا تزال أن تَـَنْقُلَ جُرأتها واندفاعها إلى الفضاء العام وأهمها الشارع وها هو يحصل.
بهكذا عناصر، تكون حركة "مانيش مسامح" هي أوّل تحرّك يمكن وصفه بالثوري، جامعاً بين العفوية والتنظّم، ويقف خارج سياق التمثّل السياسي التقليدي المتحزّب، والذي يعاني من عزوف وانعدام ثقة من المواطن.
يكفي أن ننظر في مرآة ذاكرتنا العاكسة، لنجد أنه ذات يوم من أيام ديسمبر 2010 خرجت تحرّكات عفوية خارج أطر التحزب أيضا، وتنامت تحت زخات الرصاص لتطيح برأس من رؤوس الدكتاتورية المتكلّسة، والتي ظنّ معظم الشعب حينها أنها رؤوس خارج أفق القطاف.
هل هي إرهاصات تنبّئ بواقع سياسي جديد سيفرضه الشباب على عواجيز السياسة وعاجزيها؟
أم هي إشارات لتشكّل سياسي ربما سينسف مسلّمة التحزب التقليدي الذي اهترأ في أذهان الناس؟
كتب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي : " العالم القديم يموت، والعالم الجديد يتأخر في الولادة.. وفي هذه العتمة ينتشر الوحوش"
نحن تعيش الآن في حضرة الوحوش.. فهل تخفي العتمة بوادر صبح جديد؟