بعض المتابعين لم يعجبهم ما كتبته البارحة، فليكن بيننا إذن التوضيح التالي:
أنا لم أناقش في تدوينتي مسألة تهميشه من عدمه، فما الجديد في ذلك؟ نحن نعرف أنّ من يحسب على الثّورة مقصى بالثّلاث من كامل السّاحة الرّسمية، وأقول ذلك عن نفسي قبله وأنا أدرى النّاس بأنّ وزارة الثقافة مازالت مستعمرة يسارية مافيوية فاسدة مستعدّة لمواجهة كل من يقترب منها بالرّصاص الحيّ وبالدّبّابات إذا لزم الأمر.
هذا شيء نعرفه لكنّنا اخترنا طريق الثّورة واخترنا أن نكون محاربين بالكلمة أو بالأغنية ولن نأتي اليوم لنصوّر أنفسنا كضحايا كأنّنا مصدومون من تعامل الوزارة وإعلام السقاطة النوفمبرية معنا. ليكن هذا واضحا تمام الوضوح. نحن محاربون ولسنا متسوّلين.
كلامي أيضا لا يجب أن يفهم على أنّه تبرئة لساحة النّهضة من فشلها الثقافي، أنا أدرى النّاس أيضا بأنّ النّهضة ليس لها أيّ مشروع ثقافيّ ولا يجب التعويل عليها أبدا في هذا المجال، وهي بسذاجة من يتصدّون لهذا الشّأن داخلها ليست بصدد خسارة المعركة فقط بل هي بصدد خسارة الحرب.
ولو كان لها ماكينة ثقافية مثل الماكينة الانتخابية ولو كان لها أدنى رؤية أو خارطة طريق لمعركة وعي طويلة لما بقي مبدعوها وكتابها مشرّدين منبوذين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كثيرون منهم يقتلهم اليأس والإحباط، ومنهم من يسقط في الطّريق ومنهم من يواصل الطّريق عاضّا على قلبه كمن يعوي في الصّحراء.
في موضوع قدّور، أنا تحدّثت عن شيء آخر تماما… عن قيمة الرّجولة في مثل هذه المواقف.
الرجال يبكون، وهذا صحيح تماما، وأنا لي قصيدة يعرفها الكثيرون: "كيف لا يبكي الرّجال؟"، لكنّهم يبكون في خلواتهم ثمّ يكفكفون دموعهم ليخرجوا إلى هذا العالم بوجوه أقسى من الرّصاص، وعيون لا تذلّ ولا تنكسر، ويلبسون لكلّ ظرف لبوسه ويعافرون ويحاربون، (خاصّة إذا أصبحوا مسؤولين عن عائلات)، ولا يذهبون إلى برامج التّلفاز كي يبكوا على كتف الشّامتين، وكأنّ نوفل أو بن غربيّة من أولياء الثّورة كي يذهبوا إليهم ويشتكوا حالهم. أنا واثق ومتأكّد تماما أنّ هؤلاء لا يمرّرون تلك المصائب إلاّ ليقولوا: هاهو رهانكم على الثورة قد فشل… انظروا كيف وصل هؤلاء إلى التّسوّل بلا كرامة تحت أقدامنا؟ انظروا إلى دموع العجز والإحباط وقلّة الحيلة.
دموع الرّجال غالية، غالية جدّا وليس من الرجولة أن تسفح بين أيدي اللّئام لاستجداء الطّعام! رأينا عشرات القصص عن أناس قطعت أيديهم وبقوا يشتغلون في أمور كثيرة، ولا يساومون في كرامتهم. أمّا هذا فمازال ببدنه السّويّ كما خلقه الله، والله العظيم لكان أشرف له مليون مرّة أن يقف وراء نصبة "فريب" أو "عظم رايب" أو يعمل نصبة خضرة مثلما فعلها منصف بن سالم رحمه الله، باع المعدنوس، ولم يعط رقبته لجلاّديه، ولو بكى مثله على الشّاشات وتذلّل لمنحوه، فهم كرماء جدّا مع الأذلاّء!!
كفّوا عن التّعاطف مع من يذلّ نفسه، إنّهم يريدون أن ينشروا ثقافة المذلّة والرّخص والهوان ويريدون التّطبيع معها وأنتم تساعدونهم من حيث لا تشعرون.
الحكاية ليست حكاية نهضة أو سيدي زكري، هذي حكاية قيم رجولة يريدون أن يكسروها ويريدون أن يشيعوا بين الشباب ثقافة العجز، إمّا أن أحصل على ما أريد وأشتغل فيما أريد وإلاّ فأنا ضحيّة!!
حين أخرج مع الفجر، أرى نساء متزمّلات بالظّلام وبالبرد والصقيع، يدفعن عربة البلدية ويكنسن الشّوارع ووجوههنّ حزينة قاسية كالحة كوجوه الموتى، لكنّهنّ لا يحنين جباههنّ لغير خالقهنّ.
من كان يريد له خيرا، فليقل له هذا الكلام.