غمره حنين الماضي فجأة لسبب يجهله وهو يعبر شارعا مقفرا فيما كان الصدى يرجع وقع قدميه إلى أذنيه.. حنين إلى الطفولة المرحة قبل أن تغتال مشاغل الدنيا براءته و قبل أن تزرع شوائبها شيبه.. حنين إلى تلك الأيام الحلوة عندما كان كلّ شيء جميلا وبسيطا ونقيّا نقاء الصغر من كلّ كدر..
حنين إلى لعبة الاستغمائيّة و صيد الأرانب مع الرفاق وشيّ لحم القنافذ على شاطئ سيدي فرج العذري تحت ألحان الموج الهادئة الرخيمة و أشجار النخيل المائلة المميلة.. تذكّر أيّام الصّبا لمّا كانت غابة الجزيرة عالمه السحريّ العجيب..
لا يزال عبقها الأخّاذ يسري في وجدانه.. لا يزال مذاق التوت البرّي و البلحالعسلي و التين السلطاني مطبوعا في جيناته كأنّ الأمر أزليّ سرمديّ بالفطرة.. كم هذا عجيب.. إنّها غابة الجزيرة المقدّسة بنسمات ياسمينها العربي وعطر نوّار الهندي في كل مكان وعبق الجرجير الممزوج بروائح الزهور الفوّاحة، زهور أشجار اللوز الورديّة..
كان يخيّل إليه أنّها أكبر غابات الدنيا.. كان بأعين الصبيان يرى أشجارها العملاقة كالقلاع التي تكاد أن تلامس السحاب وأغصانها المتشابكة كالحراب الممتدّة في كلّ الاتجاهات.. سحر عذوبتها لا يقاوم و سرّ إغرءها المستديم يبقى سرّ الأسرار."