العنف الممارس على رموز المؤسّسة التربويّة .. أصل المعضلة ؟ الحلّ ؟

Photo

تصاعدت وتيرة العنف الممارس على الاطار التربوي في الٱونة الأخيرة و تعدّدت أشكاله . عرفنا تطوّرا خطيرا في أشكال التعنيف . فبعد الاعتداءات اللفظية و حوادث اللكم و اللطم ، ها نحن نواجه نوعا جديدا من التعنيف وهو الطعن بالسكاكين !! هذا هو واقعنا اليوم . واقع مزري فقد فيه المربّون هيبتهم و مكانتهم و كرامتهم . أصبحنا نسمع و نشاهد العنف المسلّط على كلّ الأعوان العاملين في المؤسّسة التربويّة ، بما فيهم من إداريين و قيّمين وعملة ، و يبقى المربّي طبعا في فوهّة المدفع لينال ما ينال من الويلات و يصيب من التعنيف النصيب الأوفر .. لقد طال العنف أيضا رموز المؤسّسة التربويّة الأخرى بما في ذلك التجهيزات داخل المعاهد و المدارس و غيرها .. فكيف نواجه هذه الكوارث التي حلّت بواقعنا التربوي؟ كيف يمكن أن نتصدّى إلى كلّ فعل أو ردّة فعل يمكن أن تمسّ من حرمة المؤسّسة التربويّة عامّة و المربّي خاصّة ؟ كيف يمكن لتحرّكاتنا كمربّين أن تكون مجدية و لا تكون ردود أفعالنا سلبيّة و مناسبتيّة لا تتعدّى في مجملها التنديد و الاحتجاج ؟

قبل الخوض في هذه المسائل و قبل البحث عن الأجوبة الشافية لتلك الأسئلة المصيريّة ، وجب قبل كلّ شيء أن نتّفق على أمر مهمّ للغاية ، وهو تحديد الدور الرئيسي للمؤسّسة التربويّة ، أي بمعنى أصحّ الوظيفة الأساسيّة للمؤسّسة التربويّة .. لعلّي بهذا المفهوم أزيد في مقاربتي موضوعيّة و دقّة و وضوحا ..

حسب سوسيولوجيا التربية و علم الاجتماع التربوي ، و هما من العلوم الإجتماعيّة الحديثة ، تكمن الوظيفة اللأساسيّة للمؤسّسة التربويّة بكلّ مراحلها الابتدائيّة و الاعداديّة و الثانويّة في ترسيخ المفهوم الصحيح لجملة من القيم أوّلها و أهمّها : " الحرّيات المسؤولة " . فإذا تمكّن المتعلّم الناشئ من استيعاب هذا المفهوم بجانبه النظري و العملي ، سينعكس ذلك إيجابيّا على شخصه و على المدرسة و على المجتمع ككلّ .

سوسيولوجيا التربية و علم الاجتماع التربوي هما من العلوم الاجتماعيّة الدقيقة ، إذ يعنى مجال بحثهما كما جاء في كتاب " سوسيولوجيا التربية " للدكتور و الباحث الاجتماعي " جميل حمداوي " بـ : "دراسة المدرسة في علاقتها بمحيطها الإجتماعي و دراسة مختلف التفاعلات الاجتماعيّة داخل المؤسّسة التربويّة مثل : سلطة المدرسة ـ الحقوق و الواجبات ـ قضايا اللامساواة الطبقيّة بين الطلّاب ـ علاقة المدرسة بالأسرة و غيرها من المواضيع المتفرّعة الأخرى .. و قد أشار أيضا الدكتور " محمّد الشرقاوي " الأخصّائي في علم الاجتماع التربوي أنّ " وظيفة المدرسة تكمن أساسا في التركيز على نقل القيم النبيلة ـ أوّلا ـ ثمّ يأتي دور الاهتمام بكلّ ماهو نقل للمعارف و البيداغوجيا و التقويم العلمي .. " في نفس السياق ، يؤكّد عالم السوسيولوجيا " غابريال هاريكر " في أطروحته " تدريس القيم داخل المدرسة .. وسيلة لفهم عالمنا بشكل أفضل " قائلا : " لقد حان الوقت لنولي اهتماما أكبر بالقيم . يجب علينا أن نقوم بتعليم الناشئة القيم داخل وخارج المدارس . كما يجب علينا و نحن في المدرسة أن نواجه المشكلات و نبحث في الفراضيات و ندرس المتطلّبات و الواجبات و نحن في اتصال تام مع القيم .. "

انطلاقا من تلك الدراسات العلميّة الدقيقة ، نفهم أنّ هناك تنصيصا واضحا على دور المؤسّسة التربويّة في ترسيخ و تكريس القيم في المقام الأوّل قبل الاهتمام بنقل المعارف و المعلومات أو ما يسمّى بالزاد العلمي . و من أهمّ تلك القيم المنصوص عليها في أكثر من كتاب و أكثر من أطروحة .. قيمة " الحريّة " . يجب الوقوف على هذه القيمة و تثمينها . نحن بالفعل أمام لحظة تاريخيّة لتثبيت و تعريف مفهوم " الحريّات المسؤولة " .

جميعنا يعلم أنّ المؤسّسة التربويّة هي العصب الرئيس للمجتمع . و قد نصّت وثيقة الدستور التاريخيّة في الجمهوريّة الثانية على ضرورة تفعيل العمل بالحرّيات في المجال الثقافي و الاجتماعي و التربوي في حياة الطفل اليوميّة .. هذا مكسب عظيم طبعا و نقطة تحوّل متميّزة في تاريخ تونس المعاصر ، لكن رجاء .. هل تدرك الناشئة معنى الحريّة الصحيح ؟ هل يفهم تلاميذنا في المدارس و المعاهد معنى " الحريّات المسؤولة " ؟ أم أنّهم انساقوا عن قصد أو عن غير قصد ، طوعا أو قسرا ، بوعي أو دون وعي في تيّار الحريّة غير المشروطة فانزلقوا في منعرجات وخيمة لا تحمد عقباها أدّت بهم إلى حدّ التجرّؤ و التعدّي على رموز العلم و التربية ؟! لقد بات من الواجب علينا تبنّي المنهجيّة الصحيحة و الاستراتيجيّة التعليميّة الناجعة لانقاذ ما يمكن إنقاذه .. أصبح جميعنا على يقين تام أنّ ما أفرزته جرعة الحرّية المفرطة أو ما يعبّر عنه بالانجليزي بـ: " فريدوم أوفر دوز " إبّان الثورة المجيدة سيصبّ بالمزيد من الويلات علينا ما لم نحطّ النقاط على الأحرف و نصحّح جملة من المفاهيم في ذهن الناشئة ..

إنّ ما نعيشه اليوم من عنف و تعدّي على حرمات المؤسّسة التربويّة المقدّسة يقتضي منّا حتما ارشاد التلاميذ بصفة علميّة مدروسة حتّى يفهموا ما لهم من حقوق و ما عليهم من واجبات . إنّ مراقبة سلوكيات التلاميذ الناشئة بطريقة متواترة بعيدا عن كلّ ضغوطات لهو التأسيس الفعلي لمفهوم " الحريّات المسؤولة " . هكذا يجب على الناشئة أن يعوا معنى الحريّة ." هذا ما وصل إليه علماء الاجتماع التربويين و المختصين في سوسيولوجيا التربية . يجب على الناشئة ، وهم رجال المستقبل و أدواتنا الفعّالة لكسب الرهان و سلاحنا الأوحد لمواجهة المجهول ، أن يفهموا القصد من الحريات المسؤولة و أن يكونوا أيضا على دراية تامّة بالعقوبات التي سيواجهها أي متعدّي على حقوق و حرّيات الآخر .. تربية الأطفال يجب أن تبدأ من هذا المنطلق ..

و إلّا فلا خير فينا كمربّين و لا مستقبل آمن لأبنائنا .. إنّ تثمين قيمة الحرّية و احترام الحريّات واجب . هذه هي القيمة الحضاريّة التي اكتسبناها حديثا و لم نفهم بعد كنهها و جوهرها و لكنّنا ، كمربيّن و رجال تعليم ، سنمضي قدما حتّى نرسّخ تعريفها الصحيح في عقول أبنائنا الناشئة لغد أكثر تفاؤلا و اشراقا . قيمة الحريّة هي رمز بلادنا في الدّاخل و الخارج و لواء عزّتنا و شموخنا ، و لهذا وجب المسارعة من الآن في التأسيس للحريّات المسؤولة بصفة علميّة حتّى لا تبقى حبرا على ورق في وثيقة الدستور . من المفروض أن نتبنّى التعريف العلمي الدقيقي لوظيفة المؤسّسة التربويّة حسب ما جاء في علوم السوسيولوجيا و علوم الاجتماع التربوي . يجب على وزارة التربية في بلادنا تبنّي هذا المفهوم لترسيخ قيمة الحريّة في المجتمع و الدولة . هكذا سنتمكّن من التقليص في نسبة العنف المادي و المعنوي الممارس على كلّ رموز المؤسّسة التربويّة دون استثناء .

إنّ التعدّي على أحد أعوان المؤسّسة التعليميّة العريقة هو التعدّي على حرمة المؤسّسة ككل . أي اعتداء سواء كان ماديّا أو لفظيّا هو سلب للحريّات بكلّ ما حوته الكلمة من معنى و لا مبرّر له مهما كانت الأسباب . إنّ الاعتداءات المتواصلة على المربّين خاصّة لهي اعتداءات صارخة على الحريّات و جب التوعية بمخاطرها كما وجب ردعها و تجريمها بنص قانوني يحدّد الخطوط الحمراء التي وجب على كلّ الأطراف احترامها ، فالقانون هو الفيصل وهو يعلو ولا يعلى عليه حتّى لا يبقى العاملون في مجال التربية و القائمين عليه مهمّشين ، معنّفين ، حقوقهم مهدورة وكرامتهم مداسة و شغفهم للعمل يخبو كشمعة تنطفئ في غياب نصّ قانوني يحميهم و يعيد لهم اعتبارهم و ينصفهم اجتماعيّا و قضائيّا .

عنّف المربّي الفاضل حتّى طارت أضراسه و طعنت المربيّة الفاضلة بسكّين الغدر .. ندّدنا و انتهى الأمر .. ثمّ ماذا بعد ؟ حوالي ثلاثة آلاف حالة اعتداء على المؤسّسة التربويّة و أكثر من ثمانية آلاف اعتداء مادي و لفظي بمجرّد انقضاء الثلاثي الأوّل في السنة المنقضية ! حوالي سبعة و ستون ألف حالة اعتداء في السنتين الفارطتين ! أرقام مرعبة تعكس فضاعة الواقع التربوي الذي نعيشه في عصرنا الحالي ، فأين نحن ذاهبون و أيّ قافلة نركب ؟

متى يدركون أنّ السكوت على العنف الممارس على المربيّن هو تأسيس للعنف داخل المجتمع و الدولة ؟ و إن كانت للحريّة حرمة فإنّ المؤسّسة التربويّة هي حرمة الحريّة . و لهذا ، نطالب سلطة الاشراف الموقّرة بالعمل على مشروع سنّ قانون يجرّم العنف المادي و المعنوي المسلّط على الأسرة التربويّة بجميع شرائحها . إنّ ما حقّقناه من مكاسب و حريّات بعد ثورة الحريّة و الكرامة هو استحقاق وطني من الدرجة الأولى لا يسمح و لن يسمح بأي شكل من الأشكال أن تتعدّى فيه الحريّات و تهان تحت لوائه الكرامة ، فكيف و نحن نتحدّث عن المربّي و ما أدراك ما المربّي .. مربّي الأجيال !!

إنّ تعزيزنا للحريّات هو تعزيز للروح الوطنيّة فينا للمضي قدما نحو الأمام .. رافضين لكلّ مظاهر و أشكال العنف و الارهاب و التعدّي على الحريّات . فليكن كلّ فرد منّا كمربيّن و رجال تعليم نموذجا للحريّات المسؤولة ، عاملا بها و زارعا لقيمها النبيلة في نفوس الناشئة .. بذلك نرتقي و الله المستعان

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات