إن صياغة منظومة تربويّة سليمة ومتطوّرة هو دون أدنى شك ما يطمح إليه الإصلاح التربوي الشامل في بلادنا . هذا ما يحلم به جميعنا وما يرنو كل المربيّن إلى تحقيقه سواء كانوا مدرّسي تعليم ابتدائي أو ثانوي أو عالي . لكن من أين نبدأ ؟ يبدو أنّ هذا السؤال الشائك حيّر العديد منّا وعكس معضلة حقيقيّة وقفت كعقبة ضخمة بيننا وبين ما نبغي الوصول إليه . " من أين يبدأ الاصلاح التربوي ؟ " هو لا ريب سؤال تحدّ لكلّ من أراد الإصلاح وفكّر فيه بصفة جديّة و موضوعيّة بعيدا عن كل الشعارات الرنّانةالتي ظلّت على مدى عقود حبرا على ورق . ماهي المنهجيّة التي وجب اتخاذها ؟ و ماهي الأدوات التي يمكن استعمالها ؟ وماهي المفاهيم التي علينا تدوينها في أوّل سطر من أسطر مشروعنا الاصلاحي العظيم ؟ أجل .. نحن بالفعل أمام لحظة تاريخيّة عظيمة ستكتب لنا أو علينا . إمّا أن نرتقي بتعليمنا إلى صفّ الدول المتحضّرة و إمّا أن نتخلّف أكثر عن الركب السائر في طريق التقدّم والتطوّر لنتدحرج أكثر نحو القاع .. نحو الحضيض .
في هذه المقاربة ، سنحاول تسليط الضوء على مسألة حسّاسة للغاية أهمل بعضنا التركيز عليها و تناساها آخرون فيما حاول البعض الآخر إقصائها من القاموس جملة و تفصيلا ، ألا وهي مسألة " الأخلاق " و ما أدراك ما الأخلاق . سنحاول و من منظور تربوي بحت أن نجعل هذه المقاربة موضوعيّة قدر الامكان في بسطها لهذا الطرح ، بعيدا عن كلّ التجاذبات الايديولوجيّة سواء كانت دينيّة أو حداثيّة أو يساريّة و بعيدا عن أيّ توجّهات سياسيّة ، فما فتئت الانتماء لتلك التيّارات في العديد من المناسبات يُشعل فتيل التوتّر و يُؤدّي إلى احتداد وتيرة النقاش بين المربّين و الزملاء العاملين بنفس المؤسّسة التربويّة.
إنّ مسألة الأخلاق تعدّ من أهمّ المسائل التي وجب الوقوف عندها والتمعّن في أهميّتها ريثما نبدأ النقاش في نوعيّة العلاقة القائمة بين المربّي والناشئة .. بين المعلّم والمتعلّم .. بين الأستاذ و التلميذ .. ما هي يا ترى جملة النواميس أو القواعد الأخلاقيّة التي وجب أن نؤسّس لها داخل مؤسّساتنا التربويّة قبل أن يزداد الوضع سوء ؟ لقد بات من الواجب علينا اليوم أن نعيد صياغة جملة من المفاهيم و نضع النقاط على الأحرف في ما يخصّ الملفّ الأخلاقي ..
لم لا نجلس على طاولة الحوار لينصت بعضنا لبعض بعيدا عن كلّ تعصّب وعنجهيّة .. نتناقش بهدوء و رصانة حول الأسباب العميقة التي أدّت إلى تردّي الوضع التعليمي في وطننا .. نبحث بعمق لنفهم أسباب تجرّؤ المتعلّمين الناشئة على المؤسّسة التربويّة بكلّ رموزها ثمّ نحاول إيجاد الحلول العمليّة لتغيير هذا الواقع المزري الذي تحوّل إلى كابوس يقضّ مضجع العاملين في المجال التربوي . كيف نوقف العنف اللفظي و المادي و نعيد تشكيل صورة التلميذ المثالي كما عهدناها منذ سنين خلت ؟ تلك الصورة التي فقدناها و اشتقنا لرؤيتها من جديد . هل ستعود للمؤسّسة التربويّة هيبتها المفقودة أم سيزداد الوضع سوءا ؟ لقد حان الوقت فعلا لنبدأ في الخوض في مثل هذه المسائل المصيريّة .. يكف تراخ رجاء .
إنّ مسألة الأخلاق هي جوهر القضيّة على كونها من أكثر المسائل حسّاسيّة و تشعّبا ، إذ تختلف من منطلقها التقييمات حسب المرجعيّة الفكريّة و الايديولوجيّة لكلّ مربّ . و على سبيل الذكر لا الحصر ، يمكن أن يعتبر أحد المدرّسين سواء كان معلّما أو أستاذا بعض الهفوات التي يقوم بها عدد من التلاميذ خلال حصّة الدرس مجرّد أخطاء بسيطة أو زلّات عابرة لا ضير في التغاضي عنها و مجاوزتها ، فيما يراها عدد من المربّين الآخرين جرما مشهودا و خطأ أخلاقيّا شنيعا يتوجّب الردع و العقاب . فكيف نعالج مثل هذه المسائل ؟ كيف نكون عادلين و مقسطين في مثل هذه المواقف ؟ و هل من آليّة لتفادي التسرّع و الاعتباطيّة عند اتّخاذ القرارات ؟ أين نحن سائرون وأيّة قافلة نركب ؟ متى تعاد كتابة المفاهيم بكلّ دقّة و موضوعيّة لنرفع كلّ لبس و نصلح كلّ خلل ؟ متى نطوي آخر صفحات التعسّف و الارتجال من منظومتنا التربويّة المهترئة و نؤسّس لمناخ تربوي جديد ؟ مناخ متجدّد يحدّد لكلّ طرف مشارك في العمليّة التربويّة حقوقه و واجباته كاملة ..
حان الوقت للنظر في كلّ هذه القضايا الملحّة من منظور أخلاقي .. حان الوقت لنجتمع على كلمة سواء و نتّفق على تفصيلات واضحة تحدّد علاقة التلميذ بالمربّي . يجب أن نقف بجدّ على كلّ المظاهر السلبيّة و السلوكيّات التي نراها غير قويمة عند بعض التلاميذ .. نحدّد ونفصّل ماهو أخلاقي و غير أخلاقي .. نميّز و نفرّق بين ما هو قويم و غير قويم .. و بعد الاستكمال من تحديد كلّ المفاهيم ، تُعقد لجنة لجمع كلّ ما وصلنا إليه من قرارات و نتائج في مؤلّف أو كتيّب يكون بمثابة الدستور الأخلاقي الذي وجب اتباعه و احترامه و العمل تحت مظلّته .. عندها فقط سنضع حدّا لكل المهازل الحاصلة في واقعنا التربوي .. عندها فقط سنتصدّى لكلّ إساءة و كل شكل من أشكال العنف المسلّط على المربيّن و المؤسّسة التربويّة ككل .
في هذا النطاق ، نطالب كذلك بمادّة أخلاقيّة تدرّس جنبا إلى جنب مع بقيّة المواد الاجتماعيّة الأخرى و تكون ذات أهميّة في الضارب و المحتوى .. ويمكن تسمية هذه المادّة بـ" سلوكيّات أخلاقيّة " أو مادّة " الأخلاق " بكلّ بساطة دون إضافة مفردة " حميدة ".. فلنسمّي الأسماء بمسميّاتها و كفانا حسّاسيّات زائفة . هي الأخلاق و كفى .. لا حميدة ولا صالحة . إنّ إدراج مثل هذه المادّة في البرنامج الدراسي ليقع تدريسها للناشئة منذ الصغر يمكن أن يحسّن من نظامنا التعليمي فنرتقي إلى درجات عليا .. هكذا نلتحق بركب دول متقدّمة دأبت على تدريس الأخلاق في مدارسها كاليابان و ألمانيا و تركيا و غيرها .. ماذا لو يقع إدراج تلك المادّة و يشترط في الآن ذاته أن يكون التلميذ متحصّلا فيها على المعدّل حتّى يتسنّى له الانتقال إلى المستوى الدراسي الموالي ؟! حلم جميل في واقع تربوي يعاني من كوابيس كبيرة .
إنّ الإصلاح التربوي الحقيقي يبدأ من هنا .. من الأخلاق .. يبدأ بوضع أسس أخلاقيّة تنظيميّة بتراتيب قانونيّة يحترمها الجميع . و ليس الإصلاح بتقليص ساعات الدراسة أو بتعديل العطل أو بتغيير الزمن المدرسي .. لنكن أكثر نضجا رجاء !! .. لنكن أكثر جدّية قبل أن يزداد الوضع تأزّما .. و قبل فوات الأوان .