هل تمكنت مهنة "النياحة" أو النائحات من الفضاء العام؟ هل أصبح مجلس نواب الشعب في تونس مثالا حيا على عصرنة مهنة النياحة وتثمين مردوديتها؟ كنت منذ صغري اقول لأمي واقاربي اني لن أحضر موكب عزاء تؤثثه النائحات. صوتهن كان جد مزعج للأعصاب وصورتهن مهينة للميت وللحضور جميعا.
فسكب الدموع بغزارة وتصنع الحزن وشق الملابس والعويل والصراخ والقدرة على تعديد مناقب وخصال الميت وإظهار الجزع والغلو في الحزن كانت ربما تؤثر في البعض، ولكنها كانت تستفزني وتزعجني وكانت على راس العادات التي ساهمت مبكرا في التصدي لها منذ طفولتي لأني كنت – ولازلت - أرى فيها استغلالا واهانة للمرأة وتلبيسا على الناس بإثارة المشاعر والصراخ.
فقد كانت "النياحة" (النواح) مهنة رائجة في تونس حيث مداخيلها المهمة كانت تدفع النساء إلى الإقبال بكثافة عليها، بل تعدد الانخراط ضمن فريق النائحات الذي يشتغل بأجندة منظمة تستهدف تزييف وعي الناس لدرجة أنه كانت توجد في مصر "رابطة النساء النائحات" لتنسيق التواجد والانتشار وهي أيضا عادة منتشرة في منطقتنا المغاربية بشكل خاص.
وان ما دفعني للكتابة حول الموضوع الذي لا يدخل ضمن مجالات تخصصي هو انشار ثقافة "النياحة" في التواصل السياسي إذ لم يعد يقتصر اليوم على النساء، بل كل من يحتمي خلف أسوار الايديولوجية القاتلة جعل من النياحة اسلوب تواصل منظم. وان متابعة بسيطة لأشغال جلسات البرلمان في تونس تبين أن ما عملنا على محاربته واجتثاثه من المجتمع أي ثقافة التزييف قد عادت بقوة وتحت قبة البرلمان عبر النائحين والنائحات.
فعقلية "النياحة" لا تبني ولا تؤسس لمجتمعات عزيزة كريمة، بل هي منتوج لثقافة تزييف الوعي الجماعي وضرب للمصداقية وثوابت المجتمع. ان التلبيس والتزييف لا ينتج وعيا ولا يؤسس لفكرة أو مشروع، بل يخدم مشروح "الاستحمار" الجماعي للناس كما أشار لذلك المفكر الجزائري مالك ابن نبي.
وربما أفضل من عبر عن هذا التزييف هو الشاعر مالك بن الريب الذي أصابه مرض شديد أحسّ معه باقتراب موته فنظّم قصيدة يرثي فيها نفسه أصبحت فيما بعد من أروع قصائد الرثاء، وعرفت ب (بكائية مالك بن الريب). ومما جاء فيها إشارته إلى هذه الوظيفة القبيحة (النياحة) المدفوعة الثمن، وذلك عندما قال في مرثيته الرائعة:
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا.
ولذلك نشأ عند العرب في أمثالهم " ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة " ؛ فالنائحة المستأجرة هو اللقب الذي تُسمى به النساء العاملات في هذا المجال ، مجال سكب دموع والتكسّب في أحوال الحزن. وذلك على عكس النائحة الثكلى التي يموت لها عزيز فيكون بكاؤها حقيقياً صادقاً ودموعها ساخنة فيها مرارة الحزن والحسرة ولديها القدرة الفطرية على التأثير لا لشيء سوى قيمة الصدق والإخلاص التي تنفرد بها عن النائحة المستأجرة. فكم لدينا من دموع الصدق والاخلاص والثبات في مقابل خدمات "النائحة"؟
ومن أجمل ما قرات "ان الفرق بين النائحتين (المستأجرة والثكلى) إنما يظهر في القدرة على التأثير الحقيقي؛ بالضبط كما في حال الخطباء وأصحاب الأقلام وما شابههم من الوسائل والشخصيات الإعلامية والعامة التي تلقي خطبا أو تخط كلمات أو تدبج تصريحات في غاية الروعة وفي منتهى البلاغة ولكنها تكون فاقدة القيمة والمتابعة عند عموم المتلقين بخلاف آخرين أقلّ بلاغة وتنقصهم الفصاحة ، لكنهم في دنيا الناس لهم مكانة ويلتف حولهم جماهير وتتأثر بهم جموع من المتابعين .
وقد نُقل عن بعض السلف الصالح أنه كان إذا وعظ أبكى الناس حتى تختلط الأصوات ويعلو النحيب وقد يتكلم في المجلس من هو أغزر منه علما وأجود منه عبارة فلا تتحرك القلوب ولا يبكى أحد فسأله ابنه ذات يوم عن هذا؟ فقال: " يا بني لا تستوي النائحة الثكلى بالنائحة المستأجرة، إن الكلمة يا بني إذا خرجت من القلب وقعت في القلب وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان ".
وللأسف الشديد أن هذه الوظيفة القبيحة ( النائحة المستأجرة التي لفظها العرب في قديم الأزمان عادت إلينا في زماننا الحاضر بأثواب متنوعة ، وأشكال متطورة ، لم تقتصر فقط على وظيفة البكاء والنياحة على الأموات وإنما امتدت لتشمل نفاق الأحياء وتملّقهم والتطبيل لهم، وتوسعت لتأخذ مهام التدليس والفبركة ومشابهها من مهمات وتكليفات تزوير الحقائق بحيث أنها أصبحت مهنة لها أصولها ، وحرفة ذات اشتراطات ومتطلبات ، يزيد ثمنها وينقص بحسب ( النياحة ) المقدمة وقدرها ونوعها ، وتضاعفت أسعارها ، واحتوتها مؤسسات وفضائيات ودور نشر وصحافة وحسابات في التواصل الاجتماعي ومثلهم ممن رأوا فيها مرعى خصبا لشراء الذمم وبيع الكذب وترويج القذارة ، بوصلتهم ما يتحصلون عليه من أموال وأثمان تضيع لأجلها مهنية الصدق وقيمة الإخلاص.
ولقد حاربت النياحة صغيرا ولن أرضى أو اقبل بالسكوت عن ثقافة وخدمات "النياحة" بعد أن بلغت من العمر عتيا ولازالت شضايا النياحة تشل عقلي وتفكيري عن التدبر والتعمق في الافكار والمشاريع.
نسألك اللهم السلامة من أذى النياحة وان تشفي مرضاها نساء ورجالا في تونس وفي وطننا العربي العزيز.