تعقد هذه الايام في جينيف على هامش انعقاد الدورة 50 لمجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة العديد من اللقاءات وتشهد العديد من الترتيبات والتفاهمات. طبعا الملف الاوكراني وتبعات الحرب على المستويات الاقتصادية والانسانية والحقوقية يتصدر النقاشات وقفز ملف حقوق الاقليات المسلمة في الصين والهند وسيريلانكا ليحظى بالاهتمام المتزايد ويبقى طبعا الملف الفلسطيني ذو أهمية كبرى بالنظر لتزايد الانتهاكات بحق الفلسطينيين وأيضا تعدد أساليب التطاول الاسرائيلي على المنظومة الدولية ورفضها التعاون مع اللجان الاممية المختلفة.
من جهتنا نتابع عن قرب كل الملفات التي تؤثر على بلداننا العربية وحقوق شعوبنا ونذكر وبالم شديد وبالرغم من كل التعهدات السابقة فان الايادي الفرنسية تقف خلف عديد التوترات وتغذية الازمات الداخلية التي تقف ضد ارادة شعوبنا.
طرح السؤال في أكثر من مرة عن حقيقة الموقف الفرنسي مما يجري في تونس وعن مغزى موافقة فرنسا على عدد من البيانات التي ترفض النهج الانقلابي الذي اتبعه السيد قيس سعيد وعن حقيقة أدوار رجالها وادواتها داخل تونس ويهمني التذكير بالاتي - أول موقف معلن من الدولة الفرنسية تجاه الانقلاب كان عند الامضاء على "بيان السفراء السبع" للدول الكبار المعتمدين في تونس والذي كانت نشرته صفحة السفارة البريطانية وأبرزته الديبلوماسية الايطالية والالمانية والكندية والامريكية ولكننا فوجئنا يومها بعدم وجود اثرا مميزا للبيان لدى الفرنسيين.
بالرغم من أن البيان كان يمثل أول امتحان حقيقي لباريس حتى لا تعزل نفسها دوليا وتتخندق خلف انقلاب أدانه الجميع في الداخل والخارج فان الموقف الفرنسي بقي يتراوح اعلاميا وسياسيا. - لم يكتف الفرنسيون بالسكوت يومها وعدم ترويج البيان رغم الامضاء عليه فان سفيرهم بتونس سارع مباشرة بعد امضاء البيان للقاء وزير خارجية تونس وعبر بحسب ما نشرته صفحة الخارجية التونسية بان السفير الفرنسي أكد " تفهّم بلاده للقرارات التي اتخذها رئيس الجمهوريّة يوم 25 جويلية 2021". –
سعت فرنسا لتنظيم قمة الفرنكوفونية في بلادنا رغم الرفض الشعبي والجمعياتي الكبير للقمة واستغلت الاوضاع السائدة للتسويق لسياساتها ومزيد تركيز وتثبيت مصالحها في بلادنا والمنطقة. ووقع تأجيل القمة بعد تزايد الرفض الكبير والمعلن لأهم الدول الاعضاء في الفرنكوفونية وعلى راسها الكندا وسويسرا وبلجيكا وتأكد عدم جهوزية سلطة الانقلاب في تونس لتنظيم فعالية دولية كبرى لا تحظى بالقبول الشعبي مع التخبط الرسمي - التماهي مع رواية الانقلاب والسكوت المريب في علاقة بالفضيحة الكبرى المتعلقة بالإعلان عن وجود واكتشاف نفق يمكن استعماله من طرف ارهابيين للاعتداء على اقامة السفير الفرنسي بما يعني تعريض سمعة تونس للخطر وبالرغم من تأكد كذب الرواية فان الفرنسيين تجاهلوا التكذيب .
حاولت فرنسا التسويق للانقلاب على المستويين الاوروبي والافريقي وحتى بعض المؤسسات الدولية ولكنها فشلت في ذلك على نطاق واسع ولعل أفضل مثال هو ما سعت اليه فرنسا في فيفري الماضي بدعوة قيس سعيد الى بروكسيل ومحاولة التسويق له الى جنب المشير عبد الفتاح السيسي ولكن محاولاتها باءت بالفشل مع ادراك مسؤولي الدول المشاركة لحقيقة الوضع ولعدم توفر الحد الادنى من التحضير لتلك الزيارة التي تحولت الى فضيحة دولة بامتياز - في الوقت الذي كانت فرنسا تعقد الاتفاقات بعشرات المليارات مع كل من قطر وتركيا كانت أدواتها في تونس تعمل على تخريب أي جهد من أجل تثمين المشاريع القطرية والتركية في بلادنا .
كان من المهم تذكير فرنسا بوعودها التي سبق والتزمت بها ومنها تحويل جزء من الديون الى استثمارات والتعاون الجدي مع بلادنا في ملف الاموال المهربة وتسليم المطلوبين للعدالة في تونس وعدم تعطيل مساعي تونس لدى الهيئات والصناديق المانحة. - بالرغم من أن فرنسا حرصت على أن تكون من ضمن الذين وضعوا خطة "دوفيل" لمساعدة الاقتصاد التونسي سنة 2012 ولكن وبعد مرور 10 سنوات لازال شعبنا ينتظر انجاز البعض من تلك الوعود الكبيرة وفي نفس الوقت يردد أتباعها أن السياسات التي انتهجت لم تكن موفقة ويستعملونها اليوم كذريعة للدفاع عن الانقلاب وسلوكه المعادي لأبسط أدبيات التسيير .
مع تزايد الاحتجاجات والتحركات للتونسيين ضد الانقلاب لم تجد السلطات الفرنسية من سبيل غير القبول بوجود أزمة عميقة خاصة ان فرنسا خسرت أغلب نفوذها في افريقيا وتحاول الابقاء على علاقات غير متوترة مع الشرائح الشعبية في المجتمع .ربما أدركت فرنسا مؤخرا أن حجم الرفض والازدراء والاشمئزاز من سلوك قادتها وجزء من نخبتها كبير ويحتاج تغييرات جوهرية ولأجيال لترميم ما دمروه لهذا سعت باريس مجددا لاستعمال رجالها في تونس من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني واعلام للقيام بدور التصدي لمن تراهم فرنسا خصوما لها.
أصبح واضحا اليوم بأن فرنسا تحصد منتوج ما زرعته في بلداننا وفي تونس كمثال ما نراه هو اذرع فرنسية تتحدث بلسان التونسيين وبعقل الفرنسيين وهذه الاذرع تعمل من مواقعها في الاحزاب والنقابات والمجتمع المدني والاعلام من أجل تزييف الوعي ومصادمة ثقافة الناس وهذا يعتبر أخطر من التلوث النووي والاشعاعات التي لازالت أثارها على الاراضي الجزائرية الى يومنا هذا.
يحتاج التونسيون الى ثورة ثقافية حقيقية لدعم واسناد ثورة الحرية والكرامة من أجل الاصلاح والبناء ومن أجل التخلص من التبعية والالحاق على المستويات كافة وعندها بالإمكان التعامل مع الفرنسيين على قاعدة الاحترام والندية الحقيقية وليس عبر أدواتها والمكلفين بمهمات في بلداننا.