كل المؤشرات تؤكد أن البيروقراطية التصفوية الماسكة بزمام الأمور في الجبهة الشعبية ماضية في مسارها التصفوي ومصرة على رفض الحوار مع النواب المستقيلين مستغلة النزعات الانتهازية التي ميزت سلوك البعض منهم ومركزة تحليلها على أن طبيعة الأزمة في الجبهة سياسية وليست هيكلية وتنظيمية. فما هو السبب الحقيقي وراء استقالة نواب الجبهة؟ هل هو بسبب خلافات سياسية جوهرية كما جاء في ردود مجلس الأمناء أم هو بسبب سلوكات بيروقراطية كما يقول النواب المستقيلون؟ وأي مستقبل للجبهة في ظل هذه التجاذبات؟
1 - الخلافات السياسية موجودة في الجبهة منذ تأسيسها
الخلافات السياسية موجودة منذ تأسيس الجبهة وخاصة في ما يتعلق بالمشاركة في الحكومات المتعاقبة. وقد احتد هذا الخلاف خاصة بعد انتخابات 2014 لكن هذا الموقف بقي أقليا أمام الموقف الأغلبي الرافض للمشاركة خاصة بعد تنكر الباجي للوعود التي قدمها لأرملة الشهيد شكري بلعيد بضرورة حل القضية وبعد فشل تجربة عبيد البريكي القريب من "العائلة الوطنية" في حكومة الشاهد...
ورغم احتداد هذا الخلاف في بعض الفترات إلا أنه لم يؤد إلى انشقاق داخل الجبهة علما وأن دعاة المشاركة في الحكومات ليسوا حكرا على حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد بل هم موجودون في كل مكونات الجبهة تقريبا بدرجات متفاوتة بما في ذلك في حزب العمال. ولم يقع التعامل مع هذا الموقف كموقف انتهازي بل كتكتيك سياسي قابل للنقاش لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون سببا لانشقاق الجبهة.
بطبيعة الحال ليس هذا هو الخلاف السياسي الوحيد لكنه الأبرز إلى جانب خلافات أخرى تتعلق بالموقف من القضايا الإقليمية والعربية نذكر مثلا على سبيل الذكر لا الحصر الموقف من النظام الإيراني الذي يرى فيه التيار الشعبي حليفا في محور المقاومة في حين يرى فيه حزب البعث نظاما طائفيا يشكل خطرا على الأمة العربية... إلى جانب خلافات جزئية أخرى حول قضايا المرأة والحريات وما إذا كان يجب طرحها الآن أو تأجيلها…
وقد نجحت الجبهة على الأقل من خلال تدخلات نوابها في المجلس أو من خلال تصريحات قادتها أو من خلال نضالات قواعدها في الساحات في احتواء هذه الخلافات والتركيز على القضايا الرئيسية في مواجهة الائتلاف الحاكم…
2 - سبب الأزمة هيكلي أساسا
رغم أن الخلافات السياسية لم تشكل عائقا مباشرا أمام وحدة الجبهة الشعبية إلا أن مجلس الأمناء مازال يصر على أن الخلاف سياسي بالأساس، مركزا في نقده على منجي الرحوي باعتباره يمثل الشق الذي كان دائما يدعو إلى المشاركة في الحكومات وتغيير خطاب الجبهة من خطاب الرفض إلى خطاب "التفاعل"... لكن القاصي والداني يعرف أن النواب المستقيلين ليسوا كلهم رحويين على الأقل من زاوية تبني موقف المشاركة في الحكومات.
فمثلا يوجد من بين النواب المستقيلين نائبان عن اليسار العمالي المعروف بمواقفه الرافضة لأي تقارب مع الحكومات المتعاقبة حتى أنه كان ضد جبهة الإنقاذ وضد اعتصام الرحيل الذي أطاح بحكومة الترويكا.
كما يوجد ثلاثة نواب من حزب العمال معروفون بتبينهم الكامل للأطروحات السياسية لحزب العمال ولهم خلافات مع قيادة الحزب تتعلق بالبيروقراطية وسوء التسيير وتم طردهم لهذه الأسباب وليس لأسباب سياسية تتعلق ببرنامج الحزب أو بتوجهاته العامة وهذا ما تقره قرارات الطرد التي وصلتهم والتي لا تتضمن سوى اتهامات بالتكتل وبـ"التخريب" أو بـ"التنصل من المسؤولية" ولم تقع الإشارة إلى أي خلاف سياسي معهم. وحتى نواب الوطد الموحد فهم ليسوا كلهم رحويين بل فيهم من يرفض أطروحات الرحوي وخاصة زياد الأخضر…
بالإضافة إلى هذا فإن أغلب المستقلـّين الذي انسحبوا أو استقالوا من المجلس المركزي لم يُرجعوا انسحابهم لخلافات سياسية أو لمواقف سياسية لا تتماشى مع قناعاتهم بل أجمع أغلبهم على أن سبب الاستقالة هو تهميشهم من طرف ما أسمته إحدى المنسحبات بـ"مجلس الظل" والذي يسيطر على كل دواليب الجبهة…
إذن لماذا يصر ما تبقى من مجلس الأمناء على أن الخلاف سياسي وليس تنظيمي؟ ربما يحلو للبعض القول بأن للانتهازية وجوه عديدة وأن هؤلاء النواب ورغم اختلافهم في وجهات النظر السياسية فإنهم استقالوا لأنهم يريدون الترشح من جديد في الانتخابات التشريعية القادمة... قد يكون ذلك مقبولا نوعا ما خاصة وأن كل النواب المستقيلين لم يعبروا إلى حد الآن عن نيتهم في عدم الترشح. ولكن، هل أن بقية النواب الذين لم يقدموا استقالتهم من الكتلة أعربوا عن نيتهم في عدم الترشح؟ طبعا لا. بل بالعكس فإنهم سوف يترشحون في الدوائر التي يمكن أن تكون فيها الحظوظ أوفر.
وحتى الخلاف حول مرشح الجبهة للرئاسية والذي انحصر بين حمه الهمامي وبين المنجي الرحوي فإن هذا الخلاف وقع التطرق إليه من الزاوية التنظيمية المتعلقة أساسا بكيفية حسم المسألة إما بالاحتكام إلى مجلس الأمناء أو بالاحتكام إلى استفتاء جبهوي ولم نسمع أي تصريح لحمه الهمامي يقول فيه أنه يرفض ترشيح المنجي الرحوي لأن هذا الأخير يمثل سياسة انتهازية في الجبهة، أو تصريح للمنجي الرحوي يتهم فيه حمه الهمامي بأنه يمثل توجها سياسيا ما... بل إن كل الاتهامات هي ذات طابع تنظيمي وتكتيكي بحت.
3 - البيروقراطية تتخفى وراء الخلافات السياسية للتهرب من مسؤولية فشلها
من الواضح إذن أن إثارة الخلافات السياسية داخل الجبهة وجعلها هي السبب الرئيسي لاستقالة النواب هي بغاية تحويل وجهة القضية من قضية تنظيمية إلى قضية سياسية. أي بعبارة أخرى ممارسة سياسة الهروب إلى الأمام والادعاء بأن الخط التنظيمي للجبهة سليم وأن المشكلة هي في وجود شق انتهازي داخل الجبهة وأن المطلوب اليوم هو محاربة هذا الشق. وبذلك يقع تقسيم الجبهة بين خط ثوري يقوده مجلس الأمناء وبين خط انتهازي يقوده النواب المستقيلين... وكل من لا يدخل تحت مظلة البيروقراطية هو "انتهازي ومخرب ومتكتل...".
نحن لا ننفي وجود توجه انتهازي داخل الجبهة لكن لا يمكن اعتباره هو السبب الرئيسي لاندلاع الأزمة لأن الجبهة لم تخلو يوما من وجود نزعات انتهازية تعبر عن نفسها بطريقة ما خاصة في المحطات الانتخابية أو عند تشكيل الحكومات. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هل أن من يتهمون خصومهم بالانتهازية هم أبرياء من هذه التهمة؟ مثلا هل كان سيطال المنجي الرحوي ما طاله من اتهامات بالانتهازية واليمينية لو أنه زكى ترشح حمه الهمامي للرئاسية؟ طبعا لا.
بل الأرجح أنه سيتحول إلى صديق مبجل لحزب العمال ولكل المزكين لترشح حمه الهمامي... ومن هذا المنطلق فإن الحكم على انتهازية المنجي الرحوي ليس مرهونا بمواقفه السياسية بقدر ما هز مرهون بموقفه من ترشح حمه الهمامي للرئاسية. وهذا نوع من الانتهازية التي تعني أساسا تغيير الموقف حسب المصالح الفردية والفئوية الضيقة.
إن أزمة الجبهة الشعبية في جانب منها هي امتداد للأزمة التي عرفها حزب العمال في مؤتمره الخامس الذي انعقد في نهاية العام الفارط والذي انتهى بسيطرة البيروقراطية التصفوية سيطرة مطلقة على دواليب الحزب بعد أن أقصت العشرات من أعضاء الحزب وإطاراته القيادية من المشاركة في المؤتمر واعتبرتهم مطرودين أو منسحبين... وهذه البيروقراطية التصفوية هي التي تتحكم الآن في دواليب الجبهة وتديرها حسب مصالحها وهي تتبع نفس التكتيك مع من يخالفونها الرأي وهو تكتيك يجعل هؤلاء مجبرين إما على الرضوخ لسلطتها أو الاستقالة والانسحاب. وفي صورة إصرار البعض على المقاومة يكون سلاح الطرد والتهميش مرفوعا في وجوههم.
4 - حتى لا تضيع الجبهة بين تخريب البيروقراطية وأطماع الانتهازية
رغم أن إصلاح الأوضاع داخل الجبهة الشعبية وتوحيدها بات أمرا شبه مستحيل بسبب التخريب الممنهج الذي مارسته البيروقراطية ورفضها لأي إصلاح أو حوار مع من يعارضونها وجنوحها للتصفية ، إلا أن ممارسة ضغط قاعدي عليها مازال ممكنا ومن شأن هذا الضغط مزيد عزلها وتضييق الخناق عليها. لكن هذا الضغط القاعدي يجب أن لا يغفل أيضا فضح الانتهازية بكل تلويناتها. وهذا الصراع المزدوج ضد البيروقراطية وضد الانتهازية سيخلق بالضرورة جبهة شعبية جديدة تقطع نهائيا مع أمراض الماضي.
ويبقى الأمل قائما.