ثمة ناس اختلطت عليهم الأمور لأنهم يفكرون بطريقة مبالغة في التبسيط. فيقولون قيس سعيد على حق لأن من هم في مواجهته فاسدون. ولذا وجب القيام بشويه توضيحات منهجية في التفكير والتحليل السياسي حتى لا نقع في أحكام متسرعة ومغلوطة.
المعركة السياسية الحالية معركتان وكلاهما في منتهى الأهمية. لكن الأولى تقع في مستوى منهجي أعلى من الثانية. المعركة الأولى تخص قواعد الاشتباك وفك الاشتباك: معناها كيفاش نتعاركوا حتى لا يسقط السقف على الجميع؟ نتعاركوا بقواعد الديمقراطية وبالدستور. المعركة الثانية: معركة ضد الفساد آليةً ومضمونًا.
فالفساد نوعان، أحدهما أخطر من الآخر بكثير، لأنه يوفر له غطاء من الشرعية القانونية المغلوطة. وهو فساد الديمقراطية (فساد الآلية: استغلال اللوبيات المالية والشركات السياسية للآلية الديمقراطية للصعود إلى البرلمان) . وليس صحيحا أن قيس سعيد بصدد محاربة فساد الديمقراطية، بل إنه بصدد تكريس نوع آخر منه.
فإذا كان النوع الأول مستفيدا من شروطها المتساهلة، فإن النوع الثاني الذي يخصه مستفيد من نتائجها على غير وجه حق(انظروا مثلا كيف يؤلب شقا من البرلمان ضد شق آخر، وكيف يغض النظر عن تهريج الفاشية الحليف الموضوعي لشعبويته، وعلامات أخرى عديدة على مناوراته للتوسيع غير المشروع في صلوحياته والحد من صلوحيات شركائه في الحكم).
ما الحل وما العمل مع فساد الديمقراطية في مستوى شروط تطبيقها؟ الحل هو قانون انتخابي يسد عليه كل المنافذ. وقضاء مستقل يضرب بقوة على أيدي الفاسدين. وإعلام حر متحرر من سيطرة المال الفاسد. باهي هات نطبقوا هذه القواعد على قضايا الحال.
الذين يقفون في مواجهة قيس سعيد ليسوا متفوقين عليه بمعيار النوع الثاني من النزاهة- لأن فيهم فاسدون كثر وخطرون- بل بالمعيار الأول. قيس سعيد قاعد يناور مع قواعد اللعبة الديمقراطية. هذه القواعد التي مكنته من الوصول إلى واحد من ثلاثة أعلى مناصب في الدولة. موش قاعد منضبط حقيقة للدستور وللقواعد الديمقراطية. مستبد يلبس قناع الفقيه الدستوري.
من مصلحة البلاد والشعب أن ينضبط الجميع لقواعد اللعبة الديمقراطية وللدستور، لأن خطر التلاعب بهما هو زعزعة استقرار الدولة وتفويت المصالح الحيوية على البلاد وعموم الشعب وتعريض السلم الأهلي للخطر. فيجب حسم هذه المعركة أولا. بعدها يتحد كل الديمقراطيين النزهاء في معركتهم ضد النوع الثاني من الفساد. الذي هو فساد الديمقراطية. وبعدها يتم التوجه لمحاربة النوع الثالث الذي هو الفساد المالي والإداري. أي تطبيق قواعد الحوكمة ومعاييرها، وإعداد ملفات الفساد لإحالتها إلى القضاء. هذا التمشي تمش منهجي، لكنه لا يعني انتظار حسم المعركة بين الرئاسات للالتفات إلى المعركة ضد الفساد، بل يعني فقط ترتيب معاركنا على سلم الأهمية ترتيبا منهجيا.