أسعفني الحظ أن أطلع خلال دراستي الجامعية في علوم التربية، على كتابين بارزين في علم اجتماع المنظومات، وذلك في سياق التأطير النظري لدراسة المنظومات التربوية. هذان الكتابان لا يخصان التربية بشكل مباشر، بل هما مفيدان في فهم هيكلة وميكانيزمات المنظومات العضوية والاجتماعية بوجه عام.
• الكتاب الأول بعنوان: النظرية العامة للنّظم
• Théorie générale des systèmes (1973)
• لمؤلفه عالم الاجتماع Ludwing Von Bertalanffy
• والكتاب الثاني بعنوان الفاعل الاجتماعي والنظام، وهو لمؤلِّفيْه ميشال كروزييه وإرهارد فريدبارغ. Michel Croiser & Erhard Friedberg
وفي إطار دراستي لعلم اجتماع التربية، اطلعت على كتابين آخرين هامّين، لبيار بورديو وجان كلود باسرون، Pierre Bourdieux & Jean-Claude Passeron وهما كتاب " إعادة الإنتاج" .La reproduction، وكتاب "الورثة" Les héritiers
سأستعين في هذه المقالة بما جاء في هذه الكتب الأربعة من نماذج نظرية تحليلية وتفسيرية لفهم العلاقة بين الثوريين والدولة. الثوريون المقصود بهم الفاعلون السياسيون من ذوي التوجهات الثورية، الذين تمكنوا من دخول مؤسسات الدولة في إحدى دوائرها الكبرى الثلاث: البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية.
لكن قبل هذا، ما هو المشكل الذي نبتغي حله من خلال فحص العلاقة بين "الثوريين" والدولة؟
المشكل هو لماذا أخفق الثوريون في التعامل الناجع مع الدولة لجعلها في خدمة أهداف الثورة وتطلعات الحراك الاجتماعي؟
وهو مشكل أوحى لي به تعليق قصير للناشط الحبيب بوعجيلة على نص المرزوقي في الذكرى العاشرة للثورة؛ حيث اعتبر بوعجيلة، بحسب فهمي له، أن المرزوقي قد"دخل في الدولة وخرج منها، وهو يكاد لا يفهم منها شيئا"، فجاءت شهادته مجرد كتلة من "الانطباعات العامة والانفعالات الذاتية"(تعبيري الشخصي عما فهمته من نص بوعجيلة). سأتفاعل مع انطباع بوعجيلة عن انطباعات المرزوقي، إقرارا وردّا بهدف التنسيب والإنصاف، والأهم من كل هذا، بهدف الفهم.
ليست غايتي الدفاع عن المرزوقي لأن القضية أكبر من قضية شخص مهما علا شأنه وقدره، والمرزوقي لديّ ذو قدر عال، وإنما القضية هي فعلا قضية التحدي الذي يمثله وصول بعض الثوريين إلى إحدى دوائر القرار العليا في الدولة (البرلمان، الحكومة، الرئاسة) من أجل الاستثمار الأمثل للإمكانات المتاحة قانونيا ومؤسسيا ولوجستيا في تنزيل البرنامج العام للثورة المتمثل في دستور الثورة، على الأصعد السياسية والحقوقية والتنموية والاجتماعية.
السردية المتداولة من قبل الثوريين أو الذين يحسبون أنفسهم ثوريين، لفشلهم الجزئي أو الكلي في رفع هذا التحدي، هي سردية تآمر الثورة المضادة بأذرعها المختلفة عليهم وإعاقتها لعملهم وتشويهها لمقاصدهم وصورتهم، يضاف إليها منظومة الفساد المتحالفة موضوعيا أو عضويا مع الثورة المضادة.
لكن لنطرح المشكل من جديد بشكل فج وصادم من أجل التجرأ على المضي إلى أقصى سرعة في النقد الذاتي، حتى وإن لم نكن نحن بذواتنا من جرى الفشل على يديه: هل يمكن هنا المَتْحُ من معجم البلاغة الشعبية والقول بأنه " خانها ذراعها، قالت مسحورة"؟
قبل التوغل في التحليل والتفسير بعبارات علم الاجتماع العام وعلم الاجتماع الثقافي وعلم اجتماع النُّظم وعلم الاجتماع السياسي، لنسمح لأنفسنا بالتعبير بدورنا عن بعض الانطباعات العامة:
لا نشك في نزاهة مناضلين كبار صادقين وشرسين أمثال د. منصف المرزوقي، وعدد من مناضلي النهضة مثل المرحوم منصف بن سالم، أو الشهيد الحي علي العريض (الذي لبس كسوة الإعدام مرتين) والذين أمكن لهم الوصول إلى أعلى مراكز القرار في الدولة، ولكن دعنا نقول عنهم بكل محبة، إنهم كانوا أحيانا ساذجين، بل في منتهى السذاجة، ولم يستبطنوا روح الدولة وروح السلطة المحتكرة للعنف الشرعي في الدولة، ولمراقبتها المنظمة لدواليبها.
لن أقدم أمثلة في هذا عن المرزوقي، فهو قد كفانا بنفسه عن تقديم الأمثلة. ولن أتحدث عن سي حمادي الجبالي الذي تساءل مستنكرا يوم كان رئيس الحكومة، لدى قيامه بزيارة تفقد ميدانية "أين الحكومة؟!" ، ولكن سأقدم مثالا يخص المرحوم منصف بن سالم وزير التعليم العالي في حكومة الترويكا ومثالا عن المحترم علي العريض. لقد روى لنا المرحوم منصف بن سالم، لدى زيارته لنا في ندوة نظمها مركز البحوث والدراسات في سوسة، كيف تم التآمر عليه وعلى منظومة البحث العلمي، من قبل الإدارة العميقة المعششة في وزارته حتى لا يتمكن من صرف عشرين مليار قدمتها اليابان هبة للبحث العلمي في تونس، وحتى لا يُحسَب ذلك ضمن نجاحات الترويكا، وكيف أنه لم يفطن بذلك إلا عندما أرسلت له السلطات اليابانية تطلب تقريرا سنويا عن وجوه صرف تلك المنحة، حتى تُمكِّن تونس من منحة أخرى.
يقول بن سالم رحمه الله: لما طلبت التقرير من الجهات المختصة بالوزارة، وجدت المنحة على حالها لم يصرف منها ولا مليما واحدا. وبطبيعة الحال الإجراء المعمول به في مثل هذه الحالات، هو أن يعاد المال إلى أصحابه. وصفق بن سالم بيديه حسرة على هذا الهدر وهذا التآمر على مصالح البلاد. طبعا مسؤولية الوزير هنا هي في عدم وضعه لآلية متابعة مناسبة وفي عدم القيام بالتغييرات والتعيينات اللازمة الضامنة لحسن سير عمل المنظومة، والتهاؤه بقضايا أخرى يراها ذات أولوية، بينما المطلوب هو إحاطة مؤسسية شاملة وليست إحاطة بمحض القدرات الذاتية للفرد.
حدث مرة أن ذهبت لوزارة التعليم العالي زمن المرحوم بن سالم، لقضاء حاجة إدراية لي بصفتي أستاذا جامعيا. بحثت عن حاجتي لدى أحد مكاتب الوازارة، فحُوِّلتُ إلى مكتب آخر، وطفقت أطوف على المكاتب التي ظننتها ذات علاقة بحاجتي، حتى أدركت أن الوزارة ليست وزارة واحدة، بل وزارتين في وزارة. وزارة يشرف عليها الأستاذ منصف بن سالم، ووزارة تسيرها الإدارة العميقة. وهما ضرّتان. وعدت بوعود من الأولى وتسويف من الأخرى.
المثال الثاني يخص رئيس الحكومة الأسبق الصديق علي العريض. وقد خاطبته بخصوصه بصفة مباشرة، في إحدى المناسبات التي التقينا فيها في السنوات القليلة الماضية، وكتبت عنها مقالا في جريدة الضمير، ضمن موضوع أشمل، هو موضوع التعامل مع الإرهاب الإسلاموي. أعني قوله عن محاصرة إرهابيي أنصار الشريعة للسفارة الأمريكية: "جيناهم من قدام، ياخي جونا من تالي". قلت للأخ علي العريض، على انفراد: " ياخي الدولة فيها من تالي ومن قدام؟". الدولة يا صديقي، ولله المثل الأعلى، "بكل شيء محيطة". أي في حدود وجودها وسلطاتها وصلوحياتها.
الدولة لها أعين من أمام وأعين من خلف. الدولة تنين. الدولة أخطبوط. الدولة منظومة متشابكة فعالة. وفي نفس سياق مواجهة وزير الداخلية الأسبق علي العريض لتيار أنصار الشريعة الإرهابي، تم خداعه من قبل الفريق الأمني الميداني الذي تابع محاصرة أبي عياض في جامع الفتح وإيهامه بأن الجامع سيغرق في بحر من الدماء لو تم إلقاء القبض على أبي عياض، وأنه من الأنسب تركه ينسحب ويفر، ومن بعد تتم ملاحقته والقبض عليه، ولكن " سيب الحمام واجري وراه" كما يقال.