الخلفية العامة للمقال:
مشهد الأحزاب في تونس: حزب النداء الذي تشقه صراعات خطيرة ويفتقد لبرنامج وطني حقيقي- حزب النهضة ذو التقاليد التنظيمية الراسخة والمتطورة باستمرار ولكن دون برنامج اجتماعي إجرائي هو الآخر، بحكم الكوابح الخارجية والذاتية وقصور نزعته الأخلاقوية. أحزاب مفككة وضعيفة ومنهكة أو "زوارق حزبية" لصيد الوزف السياسي- مشاريع أحزاب لا أفق منظور لها- جبهة شعبية لا شعبية حقيقية لها- عدم وجود مؤشرات جدية على بداية تشكل معارضة قوية ومنظمة ومقنعة، تخرج من رحم "حراك شعب المواطنين"، جرّاء الصراع الديكي على بيضة ذهبية متوهمة لدجاجة لم تولد بعد، من جهة "المحترفين سياسيا".
***
النداء "اعمل لمّه" في جربه أقصى منها محسن مرزوق والعكرمي وربما الطيب البكوش، حضر ألف من أنصاره وحوالي أربعة وزراء…طبعا بإمكانه فعل ذلك وهو الذي صوت لرئيسه المؤسس أكثر من مليون ونصف من الناخبين. أي أن حضور أقل من واحد على ألف من ذلك الرصيد الانتخابي أمر أكثر من عادي. ولذا فهذا لا يدل في شيء على أن النداء في "صحة جيدة" وأنه حقا الحزب الذي بإمكانه توفير "حتى أربع حكومات لقيادة البلاد"، كما سبق أن ادعى ذلك وهو في غمرة الزهو بالإطاحة بالترويكا. فهو لم يستطع حتى توفير نصف حكومة ناجحة، بل وفر نصف حكومة شبه معاقة (0,7 نسبة نمو، مقابل 3,2 زمن حكومة الترويكا، يا والله فضيحة ويا والله نكبة!! هذا مؤشر واحد فقط على إعاقتها إعاقة هيكلية) .
المشكل الآن هو أنه لا بديل حقيقي عن هذا "الحزب المعد للاستهلاك السريع jetable.
تصعيد الباجي لسدّة الرئاسة والسلام..هذا هو فقط البرنامج الفعلي لنداء تونس سياسيا، أما اقتصاديا، فهو توفير غطاء سياسي لنشاطات مافيات الفساد.
البديل يتطلب أمرين: البرنامج والتنظيم
البرنامج لا يتوفر عليه أحد في الوقت الحاضر إلا في شكل توجهات عامة مستوحاة من الدستور ومن روح الثورة واستحقاقاتها، بالنسبة لـ"أحزاب الثورة".
أما التنظيم الجيد بما في ذلك القاعدة العريضة والانضباط والعقائدية، فلا يتفوق أي حزب في الوقت الحاضر على حركة النهضة في ذلك…في انتظار ما سيسفر عنه مؤتمرها القادم. إلى ذلك الحين تبدو النهضة وحدها الجاهزة حقا للحكم من هذه الناحية.
هل من حلّ؟ لعلّ بعض الحلّ يكمن في الإقرار بوجود النهضة كقوة سياسية تنظيمية لها قدرة على تعبئة قسط هام من أي فراغ يحصل في دواليب الحكم، بالاستعانة ببعض الكفاءات الوطنية المستقلة، نظرا لافتقاد جل قياداتها للتخصص في مجالات التدبير المختلفة وغلبة الملمح ”العلمي-التقني“ عليها.
ففي حال اندثار نداء تونس، وهو في كل الأحوال يجب أن يندثر [الوجوب الأخلاقي والمصلحة الوطنية الاستراتيجية لا الظرفية] كمرحلة وكمضامين وكسياسات لا وطنية، فلن يبقى، في حال اندثاره، إلا أشباه أحزاب، أكثر منه "شبهيّة"، بحكم افتقادها لما له من أموال و"رجال"، ولن يبقى إلا فتات، خاصة في غياب تقاليد راسخة في الديمقراطية المحلية، وفي عدم ظهور مؤشر حقيقي على تشكل قوة معارضة واعدة، خاصة مع بطء تقدم مشروع "حراك شعب المواطنين" لأسباب لا يتسع المجال لذكرها.
ولكن على النهضة في مقابل ذلك أن تفتح ورشات وطنية بالتشارك (لا بالوصاية) مع عدة أطراف (قوى مجتمع مدني- ناشطون سياسيون- خبراء- منظمات وطنية- مثقفون- جامعيون…الخ) لبلورة بديل لقيادة الدولة خلال العشر سنوات القادمة، مع الإبقاء على فكرة التشاركية في الحكم.
ولكن الأفضل من كل هذا هو العمل على تفعيل مبدأ الديمقراطية المحلية والتشاركية بشكل منهجي، ليكون مصدرا ثريا للبدائل التنموية الجهوية والمحلية، دونما تعارض مع رؤية وطنية جامعة. ويكون مناضلو النهضة، مع مناضلي بقية الأحزاب، أطرافا مشاركين في الفعاليات المحلية والجهوية مييسّرة لتدفق الذكاء الجماعي غير معرقلة له ولا وصية عليه.
هذا تصور، لمجرى الحياة السياسية في البلاد، ولكن بالتأكيد هنالك "التشويش الكبير" الذي يمارسه وسيستمر في ممارسته لوبيات المال الفاسد والتهريب وفلول التجمع المنحل المتحالفين مع تلك اللوبيات أو اللاهثين وراء فتات تموقعٍ ما في منظومة الحكم.
وهذا التشويش قد يتعاظم، كما يفعل الآن، حتى يصبح صوته يكاد يعلو كل صوت، ولكأنه صوت الحكمة والواقعية السياسية. ولكن على القوى الحية في البلاد، أن تعمل على تنقية المناخ الوطني منه، بكل الطرق المشروعة المتاحة. وليس هنالك طريقة أنجع لتبديده و"تذويبه" من تكريس الديمقراطية التشاركية، بديلا عن الديمقراطية التمثيلية وحتى عن الديمقراطية التوافقية، لتحقيق هذه الغاية، لأن الديمقراطية التوافقية التي تمارس مع حزب كنداء تونس هي كجمع الماء بالنار، أي البحث عن التوافق بين الثورة والثورة المضادة وبين الحوكمة الرشيدة وتبييض الفساد وتشجيعه على الاستمرار بالتصالح معه، بتعلات اقتصادوية، ليست إلا في صالح الاقتصاد الموازي والتهريب وتبييض الأموال والتجارة غير المشروعة.
أما الرأسمال الوطني النظيف فمرحبا به.
بعيدا عن لعبة الأحزاب، تنضج مشاريع شبابية ليس هذا أوان قطف ثمرتها. بعض هذا الشباب سيتم استدماجه في دورة الصراع السلطوي، في صورة عدم حصول تغيير جذري في البلاد، وحصول هذا التغيير الجذري أمر في غاية الصعوبة، بحكم التوريط المطرد لتونس الصغيرة جدا اقتصاديا وعسكريا في اتفاقيات وتحالفات دولية أطلسية…
وقد يصلح بعض هذه الطاقة الشبابية الثورية لقاحا لمشاريع إصلاحية مفرطة في الإصلاحية. أما المستقبل الحقيقي فلا يمكن التكهن به على نحو دقيق أبدا، اللهم إلا على مستوى الأمل.
فماذا يمكن لنا أن نأمل؟ ومن هنا إلى هناك، ماذا يمكن لنا أن نفعل؟