حوار أم لا حوار؟
نحن هنا في مقام نعم/لا لكنها نعم بدأت استراتيجية لتنتهي تكتيكية، بينما استفحلت "اللّا" الآن استراتيجية.
وإليكم بيانه:
- قبل المرسوم عدد 117 اللاغي للجزء الأعظم من الدستور بالنص واللاغي له جملة وتفصيلا بالعمل، وما تبعه من حل صريح للبرلمان، كانت هنالك دعوات للتهدئة وإيجاد تسوية مع قيس سعيد، بما في ذلك من واحد من أشد المناهضين حاليا للانقلاب وهو الرئيس السابق د. منصف المرزوقي، الذي اقترح خطة تقضي بعودة البرلمان مؤقتا وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها مع إكمال سعيد لعهدته. لكن مع تعنت المنقلب ثم إصداره للمرسوم 117 ومع تدعم المنهج الانقلابي بحل البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء والهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات وقيادة اتحاد الفلاحين وتنصيب هيئات أخرى مكانها، وإصرار المنقلب على تنظيم استفتاء على دستور لم يعدّ في النور، انطلاقا من استشارة سمّيت وطنية وهي لا تتجاوز في تمثيليتها حتى سكان معتمدية، أصبح الكلام على حوار مع المنقلب ضربا من السذاجة الفائقة أو الجنون أو الانبطاح البواح.
ومع ذلك فقد تبنت جبهة الخلاص على لسان مؤسسها والناطق الرسمي باسمها السيد نجيب الشابي هذه الدعوة للحوار "حتى مع قيس سعيد"، هكذا كررها سي نجيب مرات عديدة، وأحسب أني قد سمعتها مرة، مرة من عضوين آخرين بارزين من تنسيقية الجبهة.
وهو ما أثار استغرابي الشديد وخاطبت بشأنه عددا آخر من تنسيقية الجبهة. وكتبت عنه داعيا الجبهة إلى التخلي نهائيا عن هذه الدعوة التي أصبحت الآن مضحكة بعد أن كان لها ما يبررها بعض الشيء بمنطق التكتيك: أي إقامة الحجة على المنقلب أمام الشعب وأمام الرأي العام الدولي. وهي بلا معنى في الوقت الحاضر لأن الحوار قد انطلق فعلا في قصر الضيافة بتلك التركيبة الهزيلة من نشطاء سياسيين ومدعي الخبرة الفنية القانونية والاقتصادية. والمنقلب ماض في طريقه لا يلوي على شيء، لا يعبأ لا بقسمه على القرآن العظيم، ولا بأكثر من تسعين بالمائة من مقاطعي استشارته، ولا "بأمك صنافة" ولا "بلجنة البندقية" ولا بالبرلمان الأوروبي ولا بالكنغرس الأمريكي…
كانت إذن "نعم" استراتيجية، ثم تحولت إلى "نعم" تكتيكية، والآن لا معنى للمواصلة في ترديدها إلا من باب التأخر في الوعي بخصائص اللحظة، أو المبالغة في التكتيك المفوَّت، أو اليأس من قدرة الشعب على استعادة ديمقراطيته المخطوفة، والاستسلام لأوهام عودة الرشد لمن فقده.
أصل الآن إلى الجدل الكبير القائم حول تصريح الدكتور عبد اللطيف المكي المتبني ل"نعم" لا تفهم إن كانت استراتيجية (مفوتة) أو تكتيكية(بلا معنى في الوقت الحاضر) أو قيلت انطلاقا من اليأس من قيام الشارع الشعبي لاستعادة مكسب الحرية والدستور حتى وإن بقيا إلى حد الان إطارين مجردين لإمكان المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والشخصية.
كيف أحكم شخصيا في هذه القضية من منطلق التطوع المواطني المهتم بالشأن العام؟ أحكم في ذلك بما يلي:
- د. عبد اللطيف المكي لم يخالف ما دعا إليه بشكل متكرر، ولكن ضمن أقواس خفيفة، أي دون إلحاح، السيد نجيب الشابي وبعض قيادات الجبهة من حوار وطني لا يقصي أحدا، بما في ذلك قيس سعيد، من أجل الاتفاق على تشكيل حكومة إنقاذ وطني يصادق عليها البرلمان.
- الجميع تقريبا في الجبهة يدركون أن الحوار مع المنقلب أصبح مستحيلا وأن الدعوة إليه ليست لا واقعية ولا جدية، بل نوعا من الإذلال الذاتي المجاني.
- توجد منطقة غموض في خطة جبهة الخلاص النضالية لم تُجلَّ بالحوار الصريح والشفاف والخائض في التفاصيل التي تسكن فيها الشياطين. وهو غموض يسمح باجتهادات غير موفقة مثل اجتهاد د. عبد اللطيف المكي. الآن وجب وضع حد لهذا الالتباس بحوار داخلي حول الحوار واللاحوار وحول كافة جوانب الخطة النضالية في مواجهة الانقلاب حتى إسقاطه.
ومن ضمانات إجراء هذا الحوار بطريقة تضفي عليه مصداقية هو تحديد مركز وآلية اتخاذ القرار في الجبهة بكل وضوح: هل يسمح مثلا للسيد نجيب الشابي بقيادة قاطرة الجبهة، أي أن يكون رأسها المفكر والمدبر الوحيد، لا في الترتيبات اللوجستية الجزئية لتحركاتها الميدانية، وإنما في التقدير السياسي للموقف وفي المنهج العام للنضال وسقفه، أم يجب عوضا عن ذلك الاتفاق على قيادة جماعية ذات صلاحيات كاملة مع رئاسة رمزية للسيد نجيب الشابي؟
لن تنجح الجبهة أو أي شكل نضالي مدني جماعي ديمقراطي آخر في حيازة مكانة بديل حقيقي عن هذه القيادة الكارثية للبلاد ما لم تنجح في مثل هذا التمرين الديمقراطي داخلها.