اتصلت بي إعلامية تعمل في إحدى إذاعات القطاع العمومي منذ يومين وألحّت في طلب تصريح مني حول غلق الكنيبر: المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية، فوافقت على ذلك مع طلب مهلة قصيرة للتثبت من بعض المعطيات الخاصة بهذه المسألة، واقترحت عليها من جهتي تصريحا حول "الإصلاح التربوي" الجاري الإعداد له حاليا. فرحبت الإعلامية بذلك متفاجأة بوجود "موجة جديدة من الإصلاح التربوي".
الموعد هذا الصباح التاسعة والنصف على أن يتم بث كل تصريح في نشرة رئيسية للأنباء. رن جرس الهاتف وبعد تحية الصباح، توكلنا على الله:
تصريح 1: يعلم جمهور المربين والتربويين أن المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية هو " العقل الاستراتيجي" لوزارة التربية، وقد تم حلّ هذا المركز في عهد الوزير الأسبق ناجي جلول وأدمج مع المركز الوطني لتكوين المكونين في التربية بقرطاج، وأصبح اسم المركز الجديد "المركز الوطني للتكوين وتطوير الكفاءات" CENAFOP، وبتصفح موقع المركز الجديد (في نفس البناية القديمة) نكتشف أن وظيفة البحث التربوي قد غابت تماما عن مهامه وأن كل أنشطته منصبة على تكوين الإطارات والكفاءات.
وكذلك الأمر بالنسبة للتجديد البيداغوجي المنبني على البحث التربوي الوطني. ولسائل أن يسأل أيعقل أن تفقد وزارة التربية عقلها، عقلها المفكر والاستراتيجي؟ وما هو سبب هذا الإجراء؟ السبب في تقديري هو أن وزارة التربية قد سلمت أمرها للمركز الدولي للدراسات البيداغوجية CIEP وهو جهاز رسمي يتبع وزارة التربية الفرنسية، وهذا أمر طلبه البنك الدولي من حكومة نداء تونس تجديدا لدور هذا المركز في الوصاية المنهاجية على ثلاث وزارات هي وزارة التعليم العالي ووزارة التربية ووزارة التكوين المهني والتشغيل(تغير اسمها الآن) منذ سنة 2003 أي منذ عهد بن علي، بعد توقف قصير بعد الثورة.
تصريح2: لو نظرنا في حقيقة الإصلاح التربوي الذي أعلنه الوزير السلاوتي وشرع في التنسيق فيه مع الجامعة العامة للتعليم الأساسي والنقابة العامة لمتفقدي المدارس الابتدائية، لوجدناه إصلاحا جزئيا يقتصر على مجالات الحياة المدرسية والبرامج التعليمية وتكوين المدرسين (وفق مقتضى تدريس البرامج الجديدة) ولفهمنا أن الأمر يتعلق بالبحث عن صيغة قانونية جديدة لتتخفف الدولة من عبء تمويل المؤسسات التربوية والسماح لها بخلق تمويل بديل، ولو نظرنا إلى الأوامر الرئاسية التي تم بموجبها تحويل صبغة خمسة عشرة مؤسسة جامعية، بما في ذلك جامعات بكاملها، من مؤسسة عمومية ذات صبغة إدارية إلى مؤسسة عمومية ذات صبغة علمية وتكنولوجية ودفعها إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة في محيطها الاقتصادي والاجتماعي والسماح لها بالاستثمار والربح لتوفير أموال للتمويل الذاتي، لفهمنا أن سبب هذا التغيير هو نفسه.
الخلاصة هي أن الباعث الأساسي على هذا الإصلاح من التعليم الأساسي إلى التعليم العالي هو المشكل مالي والمأزق الاقتصادي الذي وقعت فيه حكومة قيس سعيد وأن هذا الإصلاح أبعد ما يكون عن ذلك الإصلاح التربوي الجذري والشامل الذي طال انتظاره من أجل تحقيق النقلة النوعية في المدرسة والجامعة التونسية حتى تكونا رافعتيْ تقدم وازدهار لتونس وحتى تعيد تخليق الإنسان في تونس تخليقا قيميا ومعرفيا يجعله عاملا رئيسيا لتنمية المجتمع تنمية شاملة.
كيف تلقت الإذاعة هذين التصريحين؟
يبدو أن الإذاعة وبالأحرى المشرفين عليها قد "صدموا" بهما، ولذلك فإنهم لم ينهوا الاتصال بي بشكل عادي، بإنهاء التسجيل وتوجيه الشكر لي على تعاوني والتعبير عن تقديري للمسألتين تقديرا صريحا وحرا بصفتي خبيرا تربويا(الحرية الأكاديمية) وإنما تنصلوا من هذا الواجب المهني والأخلاقي بتشغيل شريط موسيقى مضجرة. فتمهلت قليلا علّ صوتا آدميا حيا يعيد الاتصال بي فلما مرت برهة دون وصول هذا الصوت قطعت الخط ولم أتلق بعدها أي اتصال لا من الإذاعة ولا من المذيعة. إعلاميو زمن الخوف.