هذا هو الطول الزمني لرحلتي ومغامرتي الوجودية ذات الألوان المعرفية والثقافية والسياسية. مغامرتي المتأرجحة بين وظيفتي التغيير والتفسير. وأنا الآن أتساءل بعد مراوحتي بينهما طورا من بعد طور وأحيانا ببعض التداخل بين الوظيفتين: هل عليّ أن أستقر، وقد بلغت هذا العمر وأمعنت في سنّ الرشد، في الحالة الذهنية المتحفزة للتغيير أم علي أن أستخلص الدروس والعبر مما حصل لي ولغيري طوال عشرات السنين الماضية، فأتحلى بقدر كبير من التواضع (التسليم بالهزيمة) وأن أقنع بالجلوس هادئا أراقب الأحداث وأمارس دور العقل- البوم، بومة هيغل (طائر المينارڥا) التي تأتي دائما في وقت متأخر لتعقلن ما يجري في نهار الأحداث والتاريخ، ف"أربح قدري" وأحظى بمكانة حكيم وفيلسوف وعالم لا يهب قدره وعرضه لمن هبّ ودبّ ليسخر منه ويحط من قدره؟! لم لا يكون هذا هو اختياري؟ ألم يتصرف مثلا أحد الذين غادرونا هذه الأيام وحظي بتأبين شبه جماعي عظيم، بمثل هذه الطريقة وظفر بمكانة مفكر عظيم وعالم لا يشق له غبار في اختصاصه؟ عن المؤرخ والمفكر هشام جعيط أتحدث. ألم يكتف طوال نصف قرن بإمضاء عريضة أو اثنتين يعبر فيهما عن معارضته للاستبداد، ولم نره أبدا في ساحات النضال ووغى الاحتجاج؟!
ولكن لا تنسي يا نفسي أن شخصا آخر قد أجمع القريب والبعيد عند موته على رفع ذكره عاليا في العالمين وهو في أوج انخراطه في منطق التغيير حتى وإن أسنده برصيد مهم من التفسير، عن العزيز مالك الصغيري أتحدث.
لكن مالك رحمه الله لم يبلغ هذه السن التي بلغتُها ولم يراكم التجربة التي راكمتَها ولم يعيَ بعدُ(ولن يعيَ وقد توقف عمله) من محاولة رفع حجر سيزيف إلى أعلى قمة الأحلام والآمال المنشودة.
لقد انطلقت منذ سن المراهقة في مغامرة التغيير بأفق حلم إسلاموي، ثم بدا لي أن تغيير البنى الاجتماعية والسياسية لا يكون إلا بتغيير البنى الثقافية (تجربة اليسار الإسلامي) لأنها تقف عائقا أمام الفعل الثوري والتغيير الاجتماعي.
ثم سنحت فرصة للدراسة في المراحل الجامعية العليا، وتفرغت لما يزيد عن عشر سنين لإنتاج العلم أي للتفسير بالعلم وليس بالإيديولوجيا. ثم أردفتها بعشر أخرى، ولكن مع مراوحة بعد الثورة، بين مهمة التفسير ومحاولات التغيير، فكان أن حزت بالوظيفة الأولى مكانة باحث في العلوم الإنسانية والتربوية، وبالوظيفة الثانية لقب "مثقف عضوي"، من ذلك، دون التوقف عند تجاربي التنظيمية الجمعياتية والحزبية، أني داومت على الكتابة في هذا الفضاء دون توقف لمدة عشر سنوات متواصلة.
الآن وأنا أقف " متفرّجا" على كل هذه البلادة والبلاهة والخباثة والتفاهة والخور و"لعب الذر" والعبث والفوضى والشعبوية والإجرام والفساد، أقول ما الجدوى من الاستمرار في "المحاحاة" ف"السارق يغلب إلي يحاحي"؟!!
بجاه ربي ما تسلمش سي مصدق. ألست ممن صدعوا رؤوسنا" بقول "ماناش مسلمين". والله يا جماعة خليني نتفاوضوا معاكم طريف حول ها الحكاية.
أولا أذكر أنني منذ سنوات قليلة دعيت للمشاركة في ندوة فكرية مبرمجة من قبل مهرجان قابس الدولي حول النخب والانتقال الديمقراطي، وأن ما لا يقل عن سبعين مثقفا قد سمعوني أتكلم عن موت المثقف، من بعد تذكيري بموت الإنسان وموت الكاتب. والبارحة فقط قرأت مداخلة الصديق أحمد الغيلوفي في ندوة المركز العربي لدراسة السياسات عن سقوط مفهوم الطليعة الثورية (لدى الإخوان ولدى القوميين ولدى الماركسيين، مع اختلافات طفيفة في التسمية) وأننا قد دخلنا عصر الجماهير النوعية حيث يصلح كل مواطن أن يكون فاعلا اجتماعيا ثوريا.
إذا كان الأمر كذلك حقا، فلا أنا ولا المرزوقي ولا عماد الدايمي ولا عبد اللطيف المكي ولا عبد الحميد الجلاصي ولا الأمين البوعزيزي(مع حفظ الفارق في المقامات)، نستحق فعلا أي مناشدة من قبل "الجماهير" لقيادتها في فعل التغيير.
لكن ما يحيرني: لماذا إذا هذه الجماهير العظيمة اختارت أن تقودها الشعبوية والفاشية؟ هل الجماهير معصومة حقا من الخطإ؟ أريد جوابا بالإحصائيات. كم شخصا كتب هنا أنه سيقص إصبعه لو أعاد انتخاب هذا المواطن - الرئيس الذي شهدنا منه العجب العجاب؟!
لدي بصيص أمل قد يكون وحيدا: الذكاء الجماعي. الحوار الجماعي. تنظيم ورشات تفكير تعددي كثيرة على طول البلاد وعرضها: تحت عنوان: ما المشكل؟ما الحل؟ ما العمل؟ البحث الجماعي عن مخرج بعد الاتفاق على التشخيص.
في انتظار حصول هذا الأمر، فها أنا جالس هنا، أراقب متشائلا ما يجري في هذه الدولة الخردة وهذه البلاد الخربة.
والله لا تسامح من كان سبب.