التشخيص والمنهج
إذًا فعلها المنقلب وبهذا أتمّ الأركان الأساسية لعملية تزوير الإرادة الشعبية سابقا ومستقبلا: سابقا بحل البرلمان المنتخب وتعليق العمل بدستور ثورة 17- 14، ولاحقا بتركيز الموالين له في مفاصل الدولة في ما أبعد بكثير مما يخوله له الدستور من صلاحيات وسلطات وبتغيير القانون المنظم لتشكيل الهيئة الوطنية للانتخابات التي ستغدو بموجب مرسوم اليوم موالية بالكامل له. أضف إلى ذلك إعلانه اعتزامه منع كل الذين صوتوا ضد تدابير 25 جويلية وما بعدها من المشاركة في الانتخابات القادمة، انتخابات الحشد الشعبي والكناترية.
دعونا من استخدام أشد عبارات الاستنكار والتنديد والرفض، وهات نفهم ما الذي جعل هذه الكارثة التي حلت بنا ممكنة؟ بل لعلّ السؤال الأصح، إن استبعدنا السينوريوهات الأخرى الأضعف الممكنة التي هي سيناريوهات تكتيكية تأجيلية للكارثة، ما الذي جعل هذه الكارثة تكون هكذا، وقد وقع الفأس في الرأس، حتمية الوقوع؟ نطرح هذا السؤال تطبيقا بسيطا للدرس الفلسفي الهيغلي في إضفاء معقولية على أحداث تاريخية بعد وقوعها. هكذا نفعل متقمصين دور الفيلسوف الحكيم أو دور"الطز حكمة" على رأي البعض. لكن رجاء لا تضجروا بسرعة وتنصرفوا عن تتمة قراءة المقال، فإنني سأغلق هذا القوس الفلسفي بسرعة.
الذي جعل هذه الكارثة محتمة الوقوع، بعد استنفاذ من كان بيدهم منعها، كل الوقت الثمين وكل الفرص الضائعة لمراجعة طريقة "بنائهم" للبناء الديمقراطي، أعني بذلك أصحاب الأغلبية في الحكم (تحالف النهضة والنداء، ثم تحالف النهضة والشاهد، ثم تحالف النهضة وقلب تونس، ثم النهضة والمشيشي) وتأجيلهم الذي غدا استراتيجيا للاستحقاق الاجتماعي للثورة وتلكؤهم في تركيز المحكمة الدستورية وتحالفهم المباشر أو غير المباشر مع الفساد بطريقة مقننة (قانون تبييض الفساد أو التغاضي عن المفسدين)، الذي جعل إذن الانقلاب ممكنا فضلا عن نجاح الثورة المضادة المخترقة بالطول والعرض للإعلام والمخترقة فاشيا للبرلمان وشعبويا للرئاسة، ليس كل هذه الأسباب الحقيقية فقط بل الأرضية النفسية شبه الجماعية التي أصيبت بفيروس خرّب لدى الكثيرين الوعي الجنيني بالديمقراطية هذه.
الفيروس هو خيبة الأمل الكبرى في من انتخبوهم لإدخال البهجة على قلوبهم بتخفيف معاناتهم الاجتماعية. خيبة الأمل هذه حقيقية، ولكنها ليست عفوية بالكامل، بل إن جزءا هاما منها صنع من سردية حيكت وتتواصل حياكتها وحكايتها في ورشات منظمة، قطاعا، قطاعا (وصلوا الآن إلى القطاع الفلاحي) لدى اليسار الاستئصالي المتحالف مع الشعبوية والفاشية والقومجية، سردية "العشرية السوداء" (الآن تعقد ورشات حول العشرية السوداء في القطاع الفلاحي، ربما تمهيدا لقرارات خطيرة في هذا القطاع). إنها مثل قصة السلاح النووي العراقي الذي زعم وزير الخارجية الأمريكي تصويره من القمر الصناعي ملوحا بصورة غامضة بالأبيض والأسود، اعترف لاحقا بزيفها، في مجلس الأمن، ليستصدر قرارا بتدمير العراق. وهي هنا صورة مفبركة لاستصدار قرار انقلاب25 جويلية وتغيير نظام الحكم بسلسلة من مراسيم الحكم الفردي المطلق.
انطلقت جهود مقاومة الانقلاب كما ذكّرنا بذلك سابقا بتصريحات وبيانات وعرائض، وما كنا مترددين لحظة ومن الساعة الأولى في إشارتنا بقوة إلى الانقلاب وتسميته باسمه والدعوة لمقاومته سلميا لكن بكل "حزم". ثم أخذت هذه المقاومة أشكالا ميدانية من أبرزها وقفات "مواطنون ضد الانقلاب" الاحتجاجية وإضراب الجوع والاجتماعات العامة وغيرها...ولد من رحم هذه التحركات حراك سياسي وتقاربت أحزاب وتيارات وشخصيات...وظهرت بعض أشكال التآلف والتحالف. لكن المنقلب يمعن كل يوم في تفكيك منظومة الدولة الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات. والجميع تابع ذلك ويتابعه فلا فائدة من سرده.
ما هي حصيلة تحركات تسعة أشهر: تكون شارع سياسي كما قلنا ونقض أكذوبة التفويض الشعبي، وحصيلة هزيلة جدا وفاضحة لاستشارة المنقلب الإلكترونية. طبعا حصل هذا أيضا بفعل انقلاب المنقلب على عهوده بدعوى عدم محاربة الفساد مباشرة، بل اقتلاع أسبابه، وأسبابه رآها في الدستور وفي البرلمان وفي خصومه السياسيين. لم يف المنقلب بشيء من عهوده الاجتماعية للشعب، بل على العكس من ذلك تفاقمت معاناة المواطن الاجتماعية وأصبح حقيقة منكلا به في معيشته اليومية بسبب صعوبة حصوله على مواد غذائية أساسية وبسبب الغلاء الجنوني للأسعار وتردي الخدمات الصحية وتدهورها بشكل خطير للغاية.
ومع ذلك ما زال الشعب لم يعبر عن غضبه، بل يكتفي بالتعبير عن بعض التذمر أو التبرم.
ما الحل؟ وما العمل؟
مزيد تجميع القوى الديمقراطية، كما ذهب إلى ذلك القيدوم المخضرم نجيب الشابي، وكما دأبنا على الحث عليه، أمر يظل دائما محمودا. ولكن من أجل ماذا؟ من أجل تنظيم حوار وطني؟ مع من؟ وماذا يُأمل أن يسفر عنه؟ حكومة إنقاذ أو خلاص وطني؟ من سيكلفها بذلك؟ قيس سعيد، كما ارتأى ذلك صافي سعيد مثلا-؟ لكن هل سينقلب قيس سعيد على نفسه إدراكا منه للوضع الخطير للغاية لبلاده المشرفة على الإفلاس؟ هذا مستحيل. مستحيل أن يحصل ذلك معه عن قناعة بتغليب المصلحة العليا للبلاد. ماذا سنفعل إذن بجبهة الخلاص الوطني؟
ننظم بها حوارا بين القوى الديمقراطية من أجل وضع خارطة طريق لفرض غلق قوس الانقلاب، واضعين في الحسبان ضرورة معالجة أرضية الوعي الشعبي المخربة بفيروس سردية الانقلابّ، سردية العشرية السوداء، باقتراح مشروع أمل على الشعب. يجب أن نصبر على الشعب حتى يتعافى من الإحساس بالتجاهل والخديعة- مهما كانت غير مقصودة- وحتى يدرك أنه لا السادية (انتظار تنكيل المنقلب بخصومه) ولا المازوشية (الصبر العبثي على أوضاع معيشية خانقة) من شأنه أن يمثل حلا لوضعيته الصعبة للغاية. وأن عليه أن يتفاعل بأكثر عقلانية وواقعية مع أوضاعه.
لا خيار حقيقي إلا الخيار الذي يتجنب وضع عقبة إضافية أمام هدفنا الاستراتيجي في إنجاح تجربتنا الديمقراطية وبناء تنمية ناجحة على أساسها وترسيخ استقلال بلادنا ودعم رصيد سيادتنا الوطنية. وهذا لا يكون بالاتكال على السفارات الأجنبية، التي يمثل بعضها مصدرا لأكبر همومنا ومآسينا، وإنما بالمراهنة على شعبنا لا أقول على "عودة الوعي"، لأن ما فيه الآن وما يحمله هو أيضا هو وعي ولكنه وعي له معقوليته الخاصة رغم أنه وعي سلبي "شامت" ووعي من ينتظر تدفيع فاتورة الفشل إلى المساهمين الكبار فيه، إذ ليس كل مساند للمنقلب له دوافع إيديولوجية إلى تلك المساندة، لكن المراهنة تكون على عقلنة هذا الوعي حتى يتسع تقييمه للعشرية الماضية إلى كل العوامل والفواعل والفاعلين الذين كان لهم نصيب من هذا الجزء السلبي الكبير في تلك العشرية، إلى جانب بعض مكاسبها، مثل المواطنة ومثل الكرامة والحرية، وهي ليست بالقليل.
يجب مواساة هذا الشعب لا بعبارات عاطفية وإنما بالقيام بمراجعات حقيقية وبنقد ذاتي صادق من قبل الأحزاب وزعمائها، وبتقديم مشروع بديل سياسي واقتصادي واجتماعي يصاغ على قاعدة مشروع وطني يناقش في جبهة الخلاص الوطني وتنظم لأجل بلورته الورشات التفاكرية التي تتوج بمؤتمر وطني تعلن نتائجه للرأي العام الوطني والدولي.
إننا نقترب من محطة أخرى من المحطات الانقلابية وهي محطة الاستفتاء. ولذا يجب أن يقول الشعب كلمته في هذا الاستفتاء برفض المشاركة فيه، وذلك لسببين:
- سبب قريب وهو أنه لا يسمن ولا يغني من جوع ولن ينقذ البلاد من شبح الإفلاس ولن ينقذ الشعب من غول المجاعة.
- وسبب عميق وهو مخالفته للدستور وانبناءه كذلك على نتائج استشارة هزيلة للغاية.
على المناهضين للانقلاب أن يهيؤوا الشعب لمقاطعة تاريخية لهذا الاستفتاء ولمقاطعة تاريخية للانتخابات إن قدر المنقلب على الاستمرار في قرطاج إلى حين حلول الأجل الذي ضربه لها.
هذا هو المنهج إذن: مرافقة شعبنا ومشاركته في مسيرة التعافي من الشعور المدمر بالنقمة والشماتة ليتحول إلى طلب مشروع في الحياة الكريمة بعيدا عن مشاعر الحقد والضغينة وضرب الوحدة الوطنية.
إن هذا المسار قد يكون طويلا بعض الشيء، ويتطلب كثيرا من الصبر والمثابرة من دون شك، ولكنه لن يكون أطول من السير في طريق لا تصل بنا إلى أهداف حقيقية، بل إلى ديمقراطية شكلانية معتلة لا تصل حتى إلى مستوى الديمقراطية المتعثرة التي سادت قبل 25 جويلية.