اطلعت مؤخرا على حوار مع إحدى رموز التفلسف والإبداع في تونس، وقد اشتمل الحوار على سؤال حول" لقطة تعرّي الممثل السوري على ركح المسرح في أيام قرطاج المسرحية الأخيرة"، فكان مما أجابت به أنها ليست متفاجئة من تعري الفنان بقدر تفاجئها من تعرّي الجمهور الذي كشف "كم هو تقليدي ومحافظ وديني على نحو مفزع" (انظر جريدة الشارع المغاربي، العدد 153، ص17).
رغم احترامي لهذا الفيلسوفة لكونها على خلاف العديدات من بنات جيلها من النخبة التونسية، عاشقة للثورة مؤمنة بها، وهو ما عاينته بنفسي، فإني أختلف معها في الرأي والتقييم لهذه المسألة. ولذا فإن اختلافي معها ليس اختلاف من جنس الاختلاف القائم بين مناضل ملتزم ومثقف مستهتر، حاشا وكلا، وإنما هو اختلاف محكوم بفلسفة القيم التي يحتكم كل منا إليها.
وهذه مناقشتي لموقفها من القضية المطروحة:
الجسد تكوين عضوي من خلق الله. ليس فيه في حدّ ذاته أي عنصر للشرّ. بل إن أكثر ما يثير الجدل حوله (الأعضاء الجنسية) مصدر خير كبير. كيف لا ومن التزاوج يستمرّ النوع البشري ويعمر الكون؟ من دون هذه الأعضاء الجنسية لن تولد عقول جديدة كبيرة مبدعة ولا نفوس مهذبة ولا أذواق راقية، ولا أجسام تمتعنا بفنياتها الرياضية، ولا أصوات تمتعنا بشدوها الطروب...ولن تتأسس لا جماعات ولا شعوب ولا أمم ولا دول ولا مدنيات وحضارات.
وليس هنالك مشكل في تعرّي الجسد في حدّ ذاته. فالجسد يتعرّى في أحوال وسياقات عديدة:
- عند نزع الثياب للنوم أو للاستبدال
- عند الاغتسال
- جزئيا لدى الطواف في الحج للرجال
- عند المعاشرة الزوجية
- عند الفحص أو العلاج الطبي
- ...ولأغراض أخرى طبيعية
وإذا أردنا تحويل موضوع الجسد إلى موضوع فلسفي، فسنفرق فيه بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي...فيصبح الإشكال كالآتي: أي جسد يجوز (أو يتوجّب) تعريته: الطبيعي أم الثقافي؟
بداية، علينا التنبيه أنه في بعض الحالات الثقافية لا يوجد فرق بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي. لا أتحدث عن نوادي هواة العري، بل أتحدث عن حالات أقوام يستمرون في العيش على نمط بدائي...أي مشدود إلى البدايات...بدايات ظهور الاجتماع البشري...كما أن لعبة الإظهار والإخفاء الجسدي لعبة ثقافية ذوقية تستدعي ما هو جمالي ذوقي ثقافي بقدر ما تستدعي ما هو طبيعي غريزي. هنا أيضا يمتدّ الطبيعي في ما هو ثقافي، بما في ذلك نشاط الحواس (الأعين (النظرة وحركة الأجفان، والاحتشام المتردّد)، الشم –رائحة الجسد معطّرا كان أو بدون عطر)، الابتسامة (الشفاه)، التثني، المشية، الالتفاتة..الخ) وليس فقط مساحات الجسد ذات الإيحاء الجنسي المكثّف.
في ما وراء هذا التوضيح الانطروبولوجي والنفس-اجتماعي، يمكن الجزم بأن الجسد مجبور على التعري في حالات الاستجابة الوظيفية لحاجات طبيعية أكيدة. مثل الاغتسال والعلاج واستكمال دورة التبادل الحيوي مع المحيط الطبيعي في أوضاعه المختلفة.
الآن: هل يمكن للتعرّي أن يكون وسيلة تعبير فني؟
المشكل هنا مشكل ثقافي بامتياز. في الثقافة الغربية الماقبل مسيحية وما بعد مسيحية (التيار الإنسي- عصر النهضة) ظهرت التماثيل البشرية العارية بشكل مكثف...ولكن في الفاصل التاريخي الطويل المعادي للصور (اكونوكلازم) غابت الصور والتماثيل...وهذا لا يخص المسيحية فقط بل ينطبق كذلك على الإسلام.
إذا استثنينا الحالة الفارسية، فإن الثقافة الإسلامية عموما قد عدلت عن الصور الحية، فضلا عن التعري الحي لغرض فني. هذا الاتجاه الثقافي- الفني في الثقافة الإسلامية يخضع لمعيارين. معيار عقدي (إفراد الله بالخلق وعدم الإشراك به من جهة الصورة أو التمثال، ومن جهة المصوّر أو النحّات) ومعيار قيمي أخلاقي (الحياء). الثمرة الذوقية لتطبيق المعيار الأول كانت التوجه نحو التجريد، وهو تمرين ذوقي وعقلي من نوع راق، يتناسب مع عقيدة التوحيد.
والثمرة الاجتماعية لتطبيق المعيار الثاني هو العفّة والوفاء الزوجي والصحة الجسدية التناسلية، مرورا بالثمرة النفسية التي هي تجنب الإثارة المجانية والعنيفة للغرائز. فضمن فلسفة حيوية متكاملة نظم الإسلام علاقة الإنسان بالجسد. حتى يكون جسدا نظيفا صحيحا قويا مخصبا منتجا ذابّا عن الحوزة حافظا للبيضة.
هذا الجسد يحمل رأسا يحوي دماغا ينتج عن نشاطه عقل قادر على التجريد وعلى التوحيد. بطبيعة الحال، هذا لا ينطبق بدقة على حياة بعض الأمراء في القصور، حيث التّرف والانحلال...الذي هو من مقدمات انهيار الدّول...بحسب ابن خلدون وجان جاك روسو (في كتابه مقالة في الفنون والآداب). كما أن الأدبيات التي احتفت بالعري والمجون في سياق الحضارة الإسلامية لا تعبر في نظرنا عن مرحلة تقدم وتطور حضاري ولكنه كان تحريفا لروح الثقافة الإسلامية كما ارتسمت في نظرية التوحيد القرآني، وهو علامة ضعف حضاري وليس العكس لأنه جاء تأثرا بما لدى الآخر الفارسي والرومي الذي حرّف الحنيفية الأولى، التي جاءت في التوراة والإنجيل قبل التحريف. هذا التحريف الذي هو عبارة عن "ارتكاس إلى الأرض" أي إلى حالة ما قبل-ثقافية وما قبل- قيمية، لم يطل فقط علاقة مترفي المسلمين بالجسد (الجنس- الخمرة- المجون) بل طال كذلك أنماط العلاقات الاجتماعية والسياسية، فظهر الفساد فيها، وخيمت على تاريخ الخلفاء والأمراء والسلاطين روح الاستبداد- باستثناء بعض الحالات القليلة في العهد الراشدي وما بعده- كما أن سوس التحريف قد طال منظومة الاعتقاد التوحيدية نفسها، فظهرت ملل ونحل ما أنزل الله بها من سلطان، مثل الحشوية والجبرية والمجسّمة والباطنية وفرقة الحشاشين وغيرها..
الالتجاء إلى تعرية الجسد في سياق عرض فني للإشارة إلى تعرية جسد الحقائق الاجتماعية والسياسية والثقافية مما لفها من مساحيق تجميلية تخفي قبحها ومن أردية حريرية تحجب بشاعتها، هو التجاء لوسيلة قصوى في الإفهام لا تليق إلا بأولي الوعي الطفولي الحسي المباشر، ولا تليق بمن تدرجوا في مراقي الثقافة والفهم العقلي والسيطرة على مفاتيح ورموز الفكر المجرّد.
هو إذن من منظور التطور الحيوي والثقافي للجماعة البشرية يمثل انتكاسة وعي وفهم من جهة الوسيلة المستخدمة ويشير إلى حالة تخلف ذهني من جهة المتلقي المفترض. باعتبار أنه يعامل هنا معاملة من لا يفهم بمجرد الصورة الذهنية والإيحاء، بل يستوجب ما بلغه من غباء وحدسية حسية استعمال الجسد البشري كاملا في حالة عري ليدرك معنى تعرية الحقائق الساطعة للنظر الكليل العليل.
أخلص من هذا أن تعرية بعض المنتسبين للفن اليوم أجسادهم في سياق عرض مسرحي راقص أمام جمهور مسلم أو مسيحي محافظ، أو أي جمهور تجاوز مرحلة الوعي الحدس الحسي هي تعرية غير فنية وغير وظيفية، بل هي تعبيرة انحطاط للذوق والفهم. هي دكّ لحصون العفة وتكريس عنيف للنموذج المعولم من أجل تنميط الأذواق مقدمة للتحكم في الأرزاق.
فالترويج للجسد العاهر هو مقدمة للعهر الروحي وللتجرد من لباس التقوى والقيم الفاضلة والوطنية والمروءة. تعرية الجسد هو تعرية للوطن من حصنه الروحي ومضاعفة رمزية لسلب السيادة على الذات وعلى العرض والشرف والوطن. المعرّو أجسادهم لجمهور المسلمين هم موضوعيا عملاء مخابرات صهيونية تعمل على تخريب آخر حصون الدفاع عن الكرامة البشرية والكرامة الوطنية.
تصبح الثقافة هنا أداة بيد المخابرات للإفراغ الروحي وللإصابة بالدهشة والبهتة وفقدان الحمية والرجولة والغيرة على الشرف. فإذا كان الفنان المتعري يزعم تعرية الحقائق البشعة، فإننا هنا نعرّي حقيقته هو ذاته، لمّا يعمد إلى ذلك العمل الشيطاني الذي كان أصل الخطيئة الأولى وهو نزع اللباس عن الإنسان، من بعد الوعي بوظيفته الخُلقية.
لقد كان وعي العري الأوّل مع آدم وزوجه لحظة ميلاد الضمير الخلقي ولحظة تأسيس للحضارة الإنسانية. قبل تلك اللحظة، كان آدم وحواء العاريين طبيعيا لا يدركان كونهما في وضع غير أخلاقي وذلك لافتقادهما للحسّ الخلقي الذي لا يولد إلا مع الضمير ومع العقل...العري العمومي الآن في سياق قصة الحضارة الإنسانية هو ارتكاس إلى ما قبل لحظة ميلاد الضمير الخلقي الذي هو الشرط المعنوي لبناء الحضارة. وهذا ما عناه على نحو ما أمير الشعراء بقوله "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا".
ثمة مغالطة أساسية في ما أقدم عليه منتحل الفن المتعري، وتتمثل في القيام بانزياح متعسف من مجال الحميمي إلى مجال العمومي. فسخ الحدود بين الحميمي والعمومي هو بالضبط بهيمية خالصة. هل تخجل البهائم من عريها أو من التزاوج علنا- في ما عدا بعض الحالات- كما يروى عن الجمل مثلا- هل يقبل هذا الذي تعرّي بجسده أن يعرّي روحه لنا بصفة ذاتية لا بالإحالة إلى حالة إنسانية مفترضة؟ أن يعرّي ما قد يكون بها من مكر وخبث وسوء نية وأنانية وحسد وحقد وإرادة شرّ ونفاق؟
هل يستطيع أن يقيم علاقات "عادية" مع غيره وقد حطّم "أناه الأعلى" وأبرز الوجه القبيح لهُواه، وتخلى عن ذلك التوافق الإكراهي بينهما الذي هو "أناه" (الأنا هو حصيلة التوافق بدرجة ما بين الأنا الأعلى والهو) حتى يستطيع أن يكون كائنا اجتماعيا بإمكانه مواصلة الحياة بالاشتراك فيها مع الآخرين؟ الإنسان السوي ليس ذاك الذي يعامل الناس بنفسه العارية (الهُو) حيث تقبع مشاعر الخوف والرغبة الممنوعة وعلامات الخِسّة، بل هو ذاك الذي يثقّف ويهذّب هُواه بضوابط الضمير والعقل والأخلاق والمروءة، ويتسامى برغباته بطلب المعرفة وبالفن الراقي والأدب والشعر والنضال من أجل القضايا العادلة والاشتراك مع الآخرين في بناء الحضارة. ولذلك قال صاحب "خمسة دروس في التحليل النفسي": "إنما تُبنى الحضارة بكبت الغرائز" (فرويد).
نأتي أخيرا إلى قضية حرية الفن والإبداع. لا جدال في هذه الحرية. ولكن بما أن الفنان يعرض بضاعته على الجمهور بمقابل مادي (ثمن تذكرة الفرجة) أو معنوي (التصفيق والتشجيع) فإن من حق الجمهور أن يختار البضاعة التي يرغب فيها ويترك ما لا يرغب فيه. أما أن يمارس أحدهم الخديعة مع جمهوره، فهذا ينمّ عن قلّة ذوق وعن قلة احترام وعن انحطاط.
وهذا غشّ يعاقب عليه القانون. ولكن إذا ما أعلمت الناس بأنك ستتعرّى أمامهم سواء أقَدِموا فرادى أو مصطحبين أزواجهم أو إخوتهم أو أبنائهم أو آبائهم، ومع ذلك أقبلوا على التفرج على بضاعتك، فإنهم بطبيعة الحال يتحملون مسؤوليتهم المعنوية في ذلك. والمجال العمومي بخلاف المجال الحميمي مؤطر من قبل القانون والقانون خاضع للدستور، والدستور قد حسم مسألة القيم العليا للمجتمع بحسمه في مرجعية تلك القيم وهي تعاليم الإسلام (انظر ديباجة الدستور التي هي جزء لا يتجزّأ من أحكامه، وانظر الفصول 1 و6 و39).
لذلك مهما قلبنا الأمر، ذوقيا ومعرفيا وقيميا وحضاريا وقانونيا، فإنه ما من مبرّر وجيه حقا لفعل التعرّي في فضاء عمومي أمام جمهور غير راض عن ذلك ولو ضمنيا من خلال انتمائه إلى منظومة قيم محافظة يكفل الدستور احترامها وعدم التعدي عليها. ولا يفهم الإصرار عليه إلا تنفيذا لإحدى عناصر خطة مخابرتية واسعة النطاق لهدم آخر الحصون المنافحة عن الشخصية الوطنية وعن السيادة الوطنية الذي هو الحصن الأخلاقي والروحي.