أصطف مع من يصطف مع بلدي ضد الفقر والتخلف والاستعمار. وأنحاز للمصلحة الوطنية وأتخذ صديقا من يسهم في تحقيق هذه المصلحة ومن يناصر الديمقراطية ويدعمها في وطني. من يساعد بلدي على الخروج من صعوباته المالية والاقتصادية حتى لا تنهار ماليته العمومية ولا تنقطع رواتب العاملين في القطاع العام ومن يسهم في خلق ديناميكية إنتاجية وتنافسية في القطاع الخاص.
هل تحقق لنا فرنسا الاستعمارية كل هذا؟ قطعا لا. فرنسا تقف مع تونس بالقدر الذي يجعلها لا تنهار انهيارا يُعجزها عن مواصلة تقديم خدماتها إليها. هل أن فرنسا ضد الفساد في تونس؟ لا. كل الحكومات الفاسدة قبل فترة الترويكا وبعدها، سواء حكومات التكنوقراط، بما فيها حكومة السبسي الانتقالية، أو الحكومات التي تحالفت معها النهضة(النداء، الشاهد، المشيشي) كان لفرنسا فيها النصيب الأكبر. ولذا فرنسا اليوم إذ تقف إلى جانب قيس سعيد، فإنها لا تقف معه ضد عملائها الفاسدين، الذين ستعرف كيف تعيدهم بأسماء وعناوين أخرى من الشباك بعد أن أُخرجوا من الباب، وإنما تقف معه لمآرب منغعية خاصة بها في الإقليم.
لم يسجل التاريخ المعاصر أن بلدا إفريقيا يدور في الفلك الفرنسي قد تخلص حقا من الفقر ومن الأمية ومن أزماته الاجتماعية والتحق بركب الدول المزدهرة رغم ما تتمتع به القارة السمراء من ثروات طبيعية كبيرة. فقد دأبت فرنسا بعد منحها استقلالات صورية لمستعمراتها الإفريقية على رهن اقتصاديات تلك البلدان لها وامتصاص ثرواتها الباطنية بما في ذلك زمن الرئيس شارل ديغول رغم معرفته بمرارة الاحتلال للأوطان، مقابل قشرة تحديثية لا تتجاوز تأمين بنية تحتية وإدارية وتعليمية تؤمّن أفضل خدمة لنقل ثروات البلدان الإفريقية إليها.
ولقد وصل الأمر بفرنسا أن تورطت في الإطاحة ب22 رئيسا أو رئيس حكومة أو اغتياله لضمان استمرار تدفق خيرات تلك البلدان إليها. وقد تدخلت حتى في تونس بعد الثورة ولا زالت تتدخل بأشكال متخفية أو سافرة وقحة لتأبيد وصايتها عليها. واليوم نرى هؤلاء الذين يتظاهرون ضد زيارة وفد برلماني أمريكي إلى تونس للتشاور مع الرئيس قيس سعيد في وضعها السياسي بما يسهل معالجة وضعها الاقتصادي (الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من الاتفاقات والاستحقاقات المالية) لا يتورعون عن وضع أيديهم في يد فرنسا الاستعمارية بما في ذلك هؤلاء القومجيين المتنكرين لإرث صالح بن يوسف في مقاومة الاستعمار الفرنسي، من خلال فهلوة سياسية تمر عبر معسكر ما يسمى بالممانعة بقيادة إيران حليفة فرنسا ضد الإسلام السني في المغرب العربي وإفريقيا.
إن الوضع الجيواستراتيجي لتونس بقدر ما فيه من فرصة للاستثمار في تنويع الشراكات الدولية والاستفادة من حاجة الجميع إلى المرور عبر البوابة الشمالية لإفريقيا إلى داخل القارة الشابة الغنية بثرواتها الطبيعية وقوتها العاملة الشابة، بقدر ما هو وضع هش باعتبار عدم امتلاكها لكل مقومات السيادة الوطنية من قوة عسكرية عصرية ضاربة وتكنولوجيا رقمية متطورة جدا وثروات طبيعية كبيرة، ولذا فهي بوضعها هذا عليها أن تلتزم نوعا من الحياد الإيجابي الذي يخدم مصلحتها.
كما أن وضعها بما هي بلد أنجزت فيه ثورة وبني فيها مشروع نظام سياسي ديمقراطي بحاجة إلى من يدعم ديمقراطيتها الناشئة لتستكمل بناء مؤسساتها الدستورية وتركز منظومة حوكمة رشيدة محاصرة للفساد. وليس أكثر الدول نفاقا في دعم هذه الديمقراطية وهذه الحوكمة من فرنسا التي لا تناسبها لا الديمقراطية ولا الحوكمة للاستمرار في نهب ثروات البلاد خصوصا في مجال الطاقة. ولهذا النفاق وجه ثان بشع، إلى جانب الوجه الاستهلاكي ذي الابتسامة الديمقراطوية الصفراء، وهو وجه الاغتيالات السياسية وخلخلة الاستقرار السياسي وتهديد السلم الأهلي في البلاد.
ولا يفوق نفاق الفرنسيين في تونس إلا نفاق عملائهم في البلد. من قيادات اليسار الاستئصالي الفرنكفوني والقومجي الشّبّيحي في اتحاد الشغل الذين اصطفوا في الطابور الخامس مع الفرنسيين في انقلاب 25 جويلية جنبا إلى جنب مع أيتام بن علي في الحزب الدستوري الحر (الالتقاء معهم في السكوت عن التدخل الفرنسي المستمر والتظاهر ضد زيارة الوفد الأمريكي) مكتفين بالتضرع للحاكم بأمره بعدم قضم كل مساحة حرية التعبير والهامش الحقوقي حتى يتمتعوا بها في الهتاف له وتحريضه على استئصال خصومهم.
إن تونس قبلة لكل الزوار من العالم الفسيح ولها علاقات دولية مع أغلب بلدان العالم وإن علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية علاقة عريقة وكل رؤساء تونس وزعمائها من حشاد إلى بورقيبة وصولا إلى السبسي مرورا بالمرزوقي قد زاروا أمريكا وكانوا محل ترحاب وتبجيل هناك، وأمريكا ضامنة في تونس لدى البنك الدولي وماضية في دعم ثمرة ثورتها وهي الديمقراطية ولا اعتراض لها على مقاومة الفساد في الدولة وعلى خروج البلاد من أزمتها الاجتماعية والصحية بل تتعامل مع هذه المواضيع بمقاربة واقعية فيها تبادل مصالح ومنافع، كما أن تونس تستفيد من التكنولوجيا الرقمية الأمريكية في حماية حدودها من الإرهاب، فلماذا هذه الزوبعة الفنجانية في الاعتراض على زيارة دولة لبرلمانيين أمريكيين لتونس؟ هل على تونس أن تقطع علاقاتها مع كبار الدول في العالم وأن توقف كل مشاورات معها في مساحة المصالح المشتركة؟ وهل أن هذا الاعتراض هو حقا اعتراض على التدخل الأجنبي في الشأن التونسي؟ أبدا! هذا كذب ونفاق.
لأن من يعترض على التدخل الأجنبي في بلادنا يجب أن يشرع أولا في مقاومة الوصاية الفرنسية عليها لا الاستنجاد بها للاستقواء على الخصوم السياسيين من أجل ضمان استمرار احتلالهم لنفس المواقع التي تدر عليهم يوروات ودولارات ودينارات وتمنحهم نفوذا محليا وفئويا ضد بقية أبناء بلدهم وفئاته.
إنهم لا يتظاهرون ضد التدخل الأجنبي، بل يتظاهرون ضد الديمقراطية البرلمانية من أجل نظام حكم لا يخضع لرقابة البرلمان حتى يخلو لهم جو التزلف للمستبد رغم الصفعات المتتالية التي يتلقونها منه. وهم يفعلون ذلك إمعانا في المذلة وبدافع من الطمع واستجابة لتعليمات السفير الفرنسي.
ولذا لا مرحبا بمن يدخل إلى بلادنا من غير أبوابها المشرّعة لأصدقائها وشركائها، أبواب المخابرات والمؤامرات وحشر الأنف في كل صغيرة وكبيرة من شؤوننا الوطنية، ومرحبا بمن يدخل بلادنا من أبوابها الدستورية والعرفية الديبلوماسية ومن أبواب المواثيق والمعاهدات الدولية والاتفاقات الندية.