ما معنى المصالحة[الوطنية] ومن يوصي بها ومن هو المستفيد منها؟
المصالحة هو مشروع سياسي يتبناه راشد الغنوشي باسم حركة النهضة. ومفهوم المصالحة هو غير مفهوم التسوية التاريخية compromis historique، التي تقع بين القوى الجديدة الصاعدة، القوى الثورية محافظة كانت أم تقدمية، مثلما حصل في جبهة 18 اكتوبر، ومثلما حصل بين لاهوت التحرر واليساريين الثوريين في نيكارغوا، أو بين الحزب الديمقراطي المسيحي والشيوعيين في إيطاليا. المصالحة لا تقع بين الثوريين، بل بين الثوريين ومن قامت عليهم الثورة.
وهي جائزة بشرط أساسي وهو تطبيق عدالة انتقالية عادلة حقيقية وليست شكلية، كما حدث في جنوب إفريقيا مثلا، وأهم ما فيها هو اعتذار الجلادين والظلمة ورموز نظام الاستبداد وأعوانه وقواديه وأزلامه لضحاياهم وللشعب ككل، لأن الشعب قد مسه الضر بطريقة أو بأخرى من جنود الاستبداد وقادته. فهل اعتذر الأزلام وزعماؤهم عن الجرائم التي ارتكبوها في حق عشرات الآلاف من المواطنين التونسيين من يوسفيين ويساريين وإسلاميين وديمقراطيين؟ القلة منهم فقط فعلوا ذلك، والغالبية العظمى منهم تنعم الآن بنعمة الحرية بكل جحود ونكران لمن ضحوا بأرواحهم في سبيلها. بل إن الآلاف منهم غدوا يجاهرون بمعاداتهم للثورة وشهدائها، ولدستورها، وللديمقراطية ونتائجها.
لماذا يصرّ راشد الغنوشي إذن على عرض قانون للمصالحة الوطنية وعلى تمريره؟
علينا أن نتذكر أمرا مهما. إن أعداء الشعب الحر وأعداء الديمقراطية من القوى الإقليمية والدولية كانوا أصدقاء للحكام العرب المستبدين قبل إطاحة الثورات العربية بهم، وهم أصدقاء لأعوانهم أيضا، لأنهم كانوا يؤمّنون لهم مصالحهم غير المشروعة في البلدان العربية، أي كانوا حراسا لسرقاتهم الهائلة من ثرواتها وخيراتها وطيباتها، بل إنهم كثيرا ما يتولون سرقتها مكانهم وإيصالها إلى حساباتهم "محصّنة مضمّنة". ولذا فإن صعود الثوريين والديمقراطيين للحكم سيؤدي في الحالات السوية إلى:
- تطبيق العدالة الانتقالية.
- مصادرة أملاك ضخمة مغتصبة.
- وضع تشريعات جديدة ضامنة لحقوق الشعب في ثرواته.
- عزل اللصوص الكبار وخونة الوطن من مناصبهم وسحب النفوذ منهم ومحاسبة الفاسدين.
- وضع أسس الحوكمة الرشيدة وتراتيبها العملية.
- وضع منوال تنموي وطني جديد غير ريعي وغير تابع، بل منتج ومحقق لأقدار كبيرة من استقلالية القرار الوطني.
كل هذا لا يرضي عددا من حلفاء المستبدين القدامى وأصدقائهم المنافقين الدوليين الذين يتظاهرون بالانتصار للديمقراطية والحوكمة، فضلا عن أن غياب الرأسمال الوطني النظيف أو ضعف إمكانياته على مستوى داخلي وخارجي لا يسمح بإيجاد شركاء بدلاء مقنعين يتعاملون ولو في حلقة أولية مع رؤوس الأموال الدولية، ولذا فإنهم يتجهون للحلقة القوية- الضعيفة في القوى الديمقراطية التي انتصرت للثورة لعقد صفقة معها تحت عنوان " المصالحة الوطنية" يجددون من خلالها العهدة للرأسمال التابع ليكون همزة وصل لهم داخل البلاد مقابل امتيازات يمنحونها للقوة السياسية الراعية لهذه المصالحة.
الحلقة القوية- الضعيفة تجدها القوى الدولية المناهضة للثورة والديمقراطية العربية في تونس في حركة النهضة. فهي حركة قوية من جهة وزنها الانتخابي وقدراتها التنظيمية وقدرتها على فرض الانضباط على أتباعها، وهي ضعيفة من جهة افتقارها للتأشيرة الدولية للمشاركة في الحكم. فيقع ابتزازها: الحركة تطرح قانون مصالحة، والقوى الدولية تمنحها تأشيرة طويلة الأمد للحكم.
ولكن لقائل أن يقول ماذا بقي غير منجز من هذه المصالحة بعد أن وافقت النهضة على مشروع قانون السبسي لتبييض الفساد، وبعد أن تحالفت مع التجمعيين والفاسدين في نداء تونس ثم في تحيا تونس ثم في قلب تونس، وبعد أن بوأت الأمين العام السابق والأخير للتجمع المنحل، حزب الحكم المستبد قبل الثورة، محمد الغرياني، مكانة مستشار لرئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة؟ وماذا بقي من التطبيع مع الفاسدين وقد قبلت النهضة أموالا منهم لتأمين مصالحهم لديها(شهادة عبد الفتاح مورو، نائب رئيس الحركة السابق المستقيل مكسوف الخاطر)؟ بقي فقط إضفاء شرعية قانونية وغطاء رسمي من الدولة على ذلك التطبيع مع فلول الاستبداد ورؤس وفروخ الفساد.
في كلمة: إنها صفقة. صفقة غير نظيفة.
ونحن في تيار القوى الوطنية الثورية الديمقراطية نرفض هذه الصفقة التي يراد تمريرها على ظهور التونسيين وعموم الشعب لصالح أثرياء الثورة- الحرب، وهي حقا ثورةٌ حربٌ، بما أنه حدثت فيها اغتيالات سياسية وحوادث إرهابية موجهة مخابرتيا، وانقلاب مقَنَّع على الديمقراطية باعتصام الرحيل، وما يحدث الآن من تهريج عظيم في البرلمان من أنصار الفاشية.
لا للمصالحة بين الفاسدين والمتسامحين مع الفساد على ظهور التونسيين، نعم لتطبيق قانون العدالة الانتقالية. لا حاجة للتونسيين بقانون المصالحة المشبوه وغير العادل بديلا عن قانون العدالة الانتقالية الذي يتضمن المصالحة في سياق تسوية عادلة ومنصفة وشفافة.