في السابع والعشرين من أبريل من كل سنة تحيي هولندا يوم الملك، وهي مناسبة دأبت المملكة الهولندية على الاحتفال بها منذ العشرات من العقود. ميزة هذا الاحتفال أنه احتفال شعبي مرتجل، أي أنه لا توجد ترتيبات ولا تزيين ولا أشرطة ولا لافتات ولا تصرف الدولة فلسا واحدا من خزينتها في هذا اليوم. العكس هو الصحيح، فقد قررت الملكة جوليانا التي حكمت هولندا من 1948 إلى 1980 أن يكون هذا اليوم مكسبا للهولنديين وفرصة لزيادة دخلهم، فيصبح بذلك الاحتفال حقيقيا والمنفعة عامة.
وفي هذا اليوم يُخرج الشعب الهولندي، غنيا وفقيرا، كلَ ما لم يعد يستعمله في البيت يعرضه للبيع بأسعار زهيدة على عتبة الأبواب وفي الساحات العامة والشوارع وأمام المحلات وعلى الأرصفة. فتجد الكتب والأجهزة الكهربائية والأواني والألعاب الإلكترونية والملابس ولعب الأطفال وعرباتهم والدراجات، وكل ما يمكن أن تستغني العائلة عنه ولم تعد تحتاجه لسبب من الأسباب.
الشعب الهولندي يحقق هدفين أو أكثر من خلال عرض ممتلكاته التي لم يعد يستعملها للبيع، في الأول هو ينظف البيت من الزوائد والأمتعة والملابس التي لم تعد هناك حاجة إليها، وفي الثانية يجني أرباحا تصل إلى المئات من اليوروهات وربما الآلاف من اليوروهات، من أمتعة وأجهزة كان يمكن، ببساطة، أن تلقى في القمامة، وفي الثالثة يُمكّن غيره من الانتفاع بأمتعة وحاجيات بأسعار زهيدة بدلا من صرف أضعاف أضعافها في المحلات التجارية.
يوم الملك في هولندا تجربة اقتصادية واجتماعية فريدة تحتاج للدراسة والتوقف عندها. فعلى غير الأيام العادية، لا أحد يخجل من بيع ملابسه وأحذيته وأمتعته على الرصيف أو في الساحات العامة، بل يشعر بالفخر لأنه يقوم بإعادة تدوير الاقتصاد وتوفير احتياجات لغيره من المواطنين. تنتفي الفروق والطبقات، فتجد شوارع يسكنها الأثرياء تعرض مثلها مثل باقي شوارع المدينة ما فاض عن استعمالها. يقف المحامي والطبيب والمهندس والقاضي أمام بيته مع زوجته وأولاده ليعرض ممتلكاته ويسعد إذا تمكن من بيع بعضها. الأطفال يستعدون لهذا اليوم جيدا، فيجهزون الكتب التي لم تعد تناسب سنهم والألعاب الإلكترونية، أو ألعاب الفيديو والدببة والكرات والملابس التي لم يعودوا يحتاجونها لبيعها لأطفال مثلهم ويجنون أموالا كثيرة يدخرونها لاقتناء ألعاب ومقتنيات جديدة. وهي فرصة يستغلها الهولنديون جيدا ليعلموا فيها أبناءهم أهمية الكسب وحسن إدارة المال.
وهو يوم تآزر اجتماعي كبير، فالجميع ينتفع، سواء اشترى أو باع من أسعار معقولة، لا ترهق كاهل أحد، وهناك من ينتظر هذا اليوم تحديدا لشراء أجهزة قص عشب الحدائق أو معدات كهربائية معينة، أو دراجات هوائية أو عربات الأطفال.
التجربة نجحت وتأصلت لدرجة أن هناك اليوم تجارب أهلية صغيرة مستوحاة منها، من قبيل أن يقوم سكان شارع معين بعرض ممتلكاتهم التي لم يعودوا يستعملونها على باقي سكان الحي، في يوم محدد من الشهر، فيلتقي الجميع في مكان يخصصونه للغرض لانتقاء ما يناسبهم، وتبادل الاحتياجات أحيانا على وجه المقايضة.
حبذا لو أن مثل هذه التجارب تأخذ طريقها إلى مجتمعاتنا العربية التي يتفاوت فيها الاستهلاك لدرجة مفزعة، فتجد الغني الذي يرمي فائض استهلاكه في قمامات الزبالة والفقير الذي لا يجد ما يأكل. إنها مبادرات أهلية سهلة وغير مكلفة ومفيدة جدا للعائلات، سواء التي تعرض أو التي تشتري، وكل ما تحتاجه درجة عالية من الوعي والتفهم وحب الآخر وحس المواطنة والتعاون والالتزام الأخلاقي تجاه بعضنا البعض، والقليل القليل من الجهد.