التحرش: من الضحية ومن الجلاد

Photo

خلال زياراتي المتكررة إلى مصر تساءلت دائما عن سر رد المصريات على من يتحرش بهن بعنف وصراخ وانفعال شديد. ودخلت في نقاشات كثيرة مع رجال ونساء مصريين ومصريات عن جدوى التعامل مع المتحرش بهذه الطريقة. وكنت دائما أسمع إجابة واحدة على لسان الجميع، وهي أن المتحرش يتمادى في تحرشه إذا لم تردعه المتحرش بها بطريقة زاجرة وقوية وواضحة توقفه عند حده. والحقيقة أنني كنت دائما أفضّل تجاهل المتحرش كأنه غير موجود تماما، بحيث تمر الفتاة وكأنها لم تسمع شيئا، متجاهلة سلوكه المشين وتحرشه بها، وهذا برأيي إشارة قوية على أنها لا تراه ولا تعيره أي اهتمام تماما كما لو أن الأمر يتعلق بكلب ينبح على ناصية الطريق. ودائما كان المصريون يقولون إن هذا لا ينفع مع المتحرش المصري، وأن صمت المتحرش بها قد يفسر على أنه قبول أو تواطؤ منها.

شاهدت مواقف مرعبة حقيقة، نساء يصرخن بأعلى أصواتهن وبهستيريا شديدة في وجه شبان تحرشوا بهن، وتكرر هذا المشهد أمام عيني أكثر من مرة. وفي كل مرة كنت أشعر أن المتحرش بهن يبالغن في رد فعلهن، الذي فرض عليهن فرضا بوصفه “الموقف الصحيح” ورد الفعل “المناسب” على أي عملية تحرش.

وفي جلسة مع مثقفين وكتاب دخلت مرة أخرى هذا النقاش، وقلت إنني تعرضت بدوري لأول عملية تحرش واضحة، وأنني راقبت سلوك المتحرش قبل العملية وبعدها، وأنني توقعت من خلال حركته ونظرته أنه يتربّص بي، وبمجرد مروري بجواره نطق بكلماته. ولأنني توقعت التحرش قبل وقوعه بقليل، فقد نظرت إليه أولا نظرة زاجرة وقوية في محاولة لردعه، لكنه لم يرتدع ونطق بكلمات فارغة لا تؤدي معنى حقيقيا واضطررت بالفعل إلى أن أقف لوهلة في مواجهته تماما وأن أخاطبه مباشرة في عينيه، بأن يتوقف فورا عمّا هو بصدد فعله وألا يدفعني إلى ضربه!

وفي الحالات العادية، كنت سأمر من دون أن أعيره أي اهتمام، وربما اكتفيت بنظرة زاجرة، لكن في حالة المتحرش القاهري، لاحظت بالفعل كمية الإصرار على التحرش رغم معرفته المسبقة برد الفعل، ووصول رسالة بصرية واضحة وقوية إليه، لا أشك لحظة في أنه تلقاها على الشكل الصحيح.

إصرار المتحرش على التحرش رغم علمه بأن الفتاة أو السيدة التي أمامه لا ترغب فيه، ورغم معرفته الأكيدة بأن رد فعلها سيكون قويا وهستيريا، له في رأيي تفسير واحد، وهو إزعاج المتحرش بها، مما يخرج التحرش من خانة الغزل والتغزل والتقرب إلى خانة الإزعاج والاستفزاز.

العملية في مجملها تبدو كلعبة اجتماعية مسلية للبعض، وما دام الفعل يأتي بردود فعل مذهلة، وما دام المتحرش قادرا بكلمة صغيرة وتافهة على أن يجعل المرأة تخرج عن طوعها وتصرخ وتهدد، فهذه قوة وسلاطة قوية في يده يستغلها متى شاء.

عندما رويت الحادثة التي تعرضت لها لصديق قائلة إنني كنت اليوم ضحية عملية تحرش، اعترض بسرعة على كلمة “ضحية” وقال “لا أظن أنك كنت ضحية، أنت قدها وقدود”، وهو ما جعلني أوقن بأن الجميع بلا استثناء اتفقوا على أن المرأة مطالبة بالوقوف بقوة وشراسة ضد عمليات التحرش المتكررة والمستنزفة لها في الشارع، بالصراخ والتشنج والانفعال المبالغ فيه.

هناك ضرورة لكسر هذه الدائرة المفرغة وإعادة الأشياء إلى مكانها، فالمرأة ضحية في هذه الحالة ولا يجب أن تخرج من موقف “الضحية” إلى موقف المهاجم أو المعتدي أو الشرس، لأن ذلك فيه استنزاف لها ولطاقتها. هناك معتد ومعتدى عليها، والمجتمع كله والقوانين والأنظمة مطالبة بحمايتها وليس عزلها وتركها تواجه المصير البائس بمفردها، وإيكال مهمة ردع شق كامل من مختلي النفوس لها بمفردها وتحويلها بالإكراه إلى وحش شرس.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات