ولا تفارقنا هموم الوطن

Photo

أمضيت ليلتي في إحدى مستشفيات ضواحي باريس الشمالية استعدادا لتدخل طبي عاجل. ليس هناك ما يثير الإنتباه حقيقة عند دخولي باستثناء ما لاحظته من غلبة العنصر الفرنسي من أصول أجنبية، في الإطار الفني وطاقم الممرضين والأطباء ولكن ما شاهدته لاحقا دفعني لتسجيل هذه الملاحظات.

زميلي في الغرفة، شيخ في الثمانين من عمره، مهموم لكونه وجد نفسه مضطرا لتغيير برنامج إستجمامه الصيفي. مهموم لأنه قضى وقتا طويلا في برمجة اجتماع عائلي، أصولا وفروعا، في القرية التي ولد فيها أبناءه، والآن بسبب مرضه المفاجئ اضطر لإلغائه.

حدثني عن العائلة وقيمتها بل اعتبر أن معظم الأمراض الإجتماعية سببها التفكك الأسري ولكن في الوقت نفسه قال لي لا تحسبن أني أتكلم عن ظاهرة الطلاق، في عائلتي هناك العديد من حالات الطلاق ولكني أتكلم عن التواصل العائلي.

قطع محاضرته القيمة عن الأسرة الفرنسية والأخطار المحدقة بها خبر نقله إلى مستشفى آخر. ودعني متأسفا عن عدم استكمال حديثه.

ما أثار انتباهي فعلا أنه بعد مغادرته الغرفة، قاموا بتنظيف السرير قطعة قطعة وكذلك الخزانة وكل ما أحاط به. سألتهم هل تفعلون ذلك بعد كل مغادرة قالوا نعم، بل هذا هو الحد الأدنى الذي يجب أن نقوم به، متذمرين في الوقت نفسه من نقص الإعتمادات المخصصة للنظافة والصيانة.

كانت درجة الحرارة ليلا عالية بشكل استثنائي، لا تستطيع أن تفتح نوافذ الغرفة المغلقة دائما. سألتهم لماذا؟ قالوا حفاظا على سلامة المرضى خاصة بعد تسجيل العديد من حالات القفز أو محاولة القفز منها.

في الرابعة فجرا بدأت حركة الممرضين، يسيرون على أطراف أقدامهم، يتكلمون همسا، يستخدمون في تنقلاتهم بين الغرف آلات خاصة للإستنارة.

كل شئ مبرمج وفق راحة المريض وخدمته. سجلت هذه الملاحظات وأنا أفكر في الإشكال الآتي: هذه القيم الحضارية ليست مستعصية عن الفهم نظريا وليست معقدة لتكون منهج حياة عمليا، طبعا بعد توفير أسبابها المادية، فما الذي جعلها تصرفات تكاد تكون تلقائية عندهم ونادرة حتى لا أقول منعدمة عندنا؟ لم تعد تقنعني قلة الإمكانات لأن العقل القادر على تبديدها، قادر إن أراد على استثمارها على الوجه الأكمل حتى وإن كانت قليلة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات