لا أحد يجهل أن أي مسؤول عن شيء لا يمكنه أن يحيط به وأن يتعامل مع كل جوانبه من دون أن يكون له مساعدين مخلصين في المشورة وأحرارا في رأيهم، لأن من شروط المشورة أن تكون صادقة وألا يكون القائم بها مضطرا للنفاق أو لإخفاء الحقيقة التي يقتضيها موضوع الاستشارة من وجهة نظره المعللة.وقد طبقت هذا المبدأ عندما كلفت بصفتي وزيرا مستشارا لأول رئيس حكومة منتخبة الاستاذ حمادي الجبالي.
ولما رأيت أنه في وضعية لا تسمح له بأن يعمل بحرية، فضلا عن أن يستطيع سماع المشورة، استقلت. وقد قدمت بهذا للكلام على ما وصل إلى علمي من أن رئيس الدولة اختار الأستاذ الصيد مستشارا سياسيا.
ويحق لي أن افترض أن الأستاذ الصيد لم يقبل لو لم يكن متأكدا من أن الرئيس يعلم صلابته وصدقه وقبل بهما، لأنه جربه على الاقل مرتين:
• وزيرا للداخلية قبل الانتخابات الأولى.
• ثم رئيسا للحكومة قبل رئيس الحكومة الحالي.
وقد جربه خاصة في واقعة السعي لعزله بصورة فيها عدم فهم لشخصية الرجل. فإذا كان الرئيس قد عينه مع أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار، فمعنى ذلك أنه بدأ يدرك أنه لم يكن محاطا بمستشارين قادرين على مده بالمعلومات الصحيحة عما يجري في البلاد.
أما إذا كان الامر مجرد مناكفة مع رئيس الحكومة الحالي، فإن الامر لا يبشر بخير. واستبعد ذلك لأني أنزه الصيد عن قبول ذلك.
وعلى كل آمل أن يكون حسن ظني بالرجل في محله، وآمل أن يكون الرئيس قد أدرك أن من كان من حوله من المستشارين ليسوا في مستوى المهمة كلهم أو جلهم أو بعضهم من ذوي التأثير الغالب.
وسأضرب مثالين مما نصحوه به بجعلهما أول منجزين في الأيام الأولى من نجاحه، وآخر منجزين يسعى إليهما. وكانت خاتمة هذا المربع الورطة التي ستلطخ تاريخه إن واصلها، وأعني بها محاولة القيام بما يستحيل النجاح فيه أولا، ومجرد السعي إليه دليل نهاية عهد لا تليق بمن يريد أن يسجل اسمه في تاريخ تونس عامة، وثورتها خاصة.
ولأبدأ بالأولين:
• إعادة التمثال
• وتسريح الزطلة
لا يمثلان إنجازا يعتد به.
يمكن أن يحصلا ولا ضير فيهما إذا كانا مجرد عمل عادي للدولة دون أن يجعل رئيسها ذلك طموحا كبيرا يعتد به في شعب يزعمون أنه استقل منذ ستين سنة وشرع في بناء دولة حديثة وبعد ثورة اكتشفت عوراتها، وكان من المفروض أن يكون أول منجزات عهده متعلقا بإصلاح العورات وانجاز بعض مطالب الثورة.
أما أن يعود بتونس إلى سالف عهد النظام القديم (التمثال)، فلكأنه يكذب نفسه أو ما يمكن أن يعتبر إيجابيا في عمله، أي تحقيق المصالحة بين كل أبناء تونس دون نكئ للجروح بين البورقيبيين والإسلاميين خاصة، وهو لم يكن مخيرا للحكم من دونهم بخلاف ما يوهم به الإسلاميين:
عسر المعركة يفرض عليه ما حصل.
فهو ليس غافلا عن أمرين:
1. أن ما فشل فيه بورقيبة وابن علي طيلة أربعين سنة بدليل الانتخابات الاولى والثانية فضلا عن التي وقعت في بداية عهد ابن علي لن يستطيعه غيرهما.
2. وهو الأهم، هو يعلم أن المعركة إن بدأت، فلا بد لها من مدة طويلة وهو في سن لا توفر له ذلك.
فاختار ما ليس منه بد.
وقد اضيف علتين اخريين:
• فإذا كان بحق حاصل على أسلوب بورقيبة في التعامل مع الانظمة العربية، فلا بد ألا يثق في أمراء الثورة المضادة الذين قد يكونوا سعوا لتشجيعه على محاكاة ما حصل في مصر.
وهو يعلم أن الجزائر سبقت إلى ذلك، فعانت من حرب أهلية عشر سنوات، فكان بذلك حكيما حقا وقد حييته.
• والعلة الثانية كذلك من المدرسة البورقيبية: فقد كان اليسار والقوميون ألد أعداء بورقيبة.
صحيح أن السبسي استعملهم ومعهم الاتحاد لتحقيق توازن مع الإسلاميين وتغيير النظام، لكنه يعلم أنهم أخطر عليه من الإسلاميين. ذلك أن الإسلاميين يقرأون الوضع الإقليمي والدولي بما جربوه ووعوه.
ذكرت ذلك كله حتى يفهم السبسي – وأظنه فاهم ذلك لكنه كان يلعب لعبة البوكار مع الإسلاميين – ليوهمهم أنه ذو فضل عليهم، فلم يدخل حقا في مصالحة يمكن أن يكتبها له التاريخ، ليس التونسي وحده، بل كل الإقليم، لأن معضلة المعضلات فيه هي حرب أدعياء الحداثة الزائفة ضد ثقافة شعوبها وهو أمر يفهمه جيدا.
فإذا كان هذا قصده من تعيين الاستاذ الصيد فنعم ما فعل. أما إذا كان للمناكفة التي يراد زجه فيها، فإني أخشى أن يكون قد أصبح لعبة بيد غيره كما حصل لبورقيبة بسبب سنه ومرضه. فليحذر وليأخذها مني نصيحة لوجه الله، فقد يؤدي ذلك إلى مأساة الجميع ضحية لها:
لا أحد يقبل اللعب بأهداف الثورة.
وبذلك أصل إلى الانجازين اللذين يراد له أن يجعلهما خاتمة لعهده. وهما من جنس ما به بدأ عهده:
لا يشرفان رجلا بخبرته وبطموحه لتسجيل اسمه في تاريخ تونس. وهما مناورتان باسم الخوف على سلطته أو على توريث ابنه:
1. مع الصيد وعطل البلاد نصف سنة.
2. الثانية مع الشاهد قد تجرنا للهاوية.
فلا أحد في تونس يهدد سلطان رئيس الدولة كما يحدده الدستور. لذلك فلا يحلم أحد بالعودة إلى دستور ابن علي من حيث هو أمر واقع. ديوان قرطاج يحكم والقصبة والمجلس بني وي وي. كما أن الحكم بالتوريث مستحيل، والأفضل التفكير في مرشح توافقي لشخص يحترم الدستور لرئاسة الدولة في 2019.
أما الطامة فهي الخامسة التي جمعت بين الأربع الاولى:
تقرير لجنة التسعة لا يمكن أن يعتبر مواصلة للإصلاح البورقيبي، بل هو مشروع فتنة آمل أن يتداركها رئيس الدولة، وبصرف النظر عن الإسلاميين، – وهو يعلم أني لا أنتسب إلى أي حزب إسلامي أو غير إسلامي – لأن الثورة غيرت اللعبة.
ما كان ممكنا لبورقيبة، وهو لم يتورط في ما يجانس ما في هذا التقرير الدال على الجهل التام بما يجري في العالم وفي تونس خاصة، فضلا عن كيفيات الاصلاح التشريعي وتغيير أسس القانون التونسي بفصله عن مرجعياته الدستورية والحضارية، لم يعد ممكنا حتى لو كان بورقيبة نفسه حاكما.
تونس تغيرت.
الاقليم تغير.
أدعياء الحداثة لا يختلفون من حيث التطرف والتعصب عن أدعياء الاصالة. كلاهما كاريكاتور مما يدعيه. فلا أولئك يمثلون قيم الحداثة، بل هم يقتاتون من بقايا قيم توظيفها الاستعماري، ولا هؤلاء يمثلون قيم الإسلام بل يمثلون الكثير من تحريفاته في عصر الانحطاط.
إذا كان حقا يبحث عن تخليد اسمه في تاريخ تونس والإقليم، فليسع إلى فتح باب الحوار الفكري والحضاري بين النخب التي تحررت من هذين الكاريكاتورين بفهم قيم الحداثة كما يفهمها كبار مفكري الغرب الحاليين، تحررا من توظيفها الاستعماري، وبفهم قيم الأصالة التي علينا العودة إليها بتجاوز التحريف.