لا يوجد متابع لا يندهش من كثرة التعريفات الذاتية للنخب السياسية في الـ220 حزيبا عامة وفي ما تكون منها بعد الثورة خاصة وهو العامل الأول الذي سأنطلق منه لتوصيفها بما يبدو لي أكثر مناسبة لما تثبته الأفعال التي تكذب الأقوال. فليس كل من يعرف نفسه صادق لأن الأحزاب في جميع دول العالم لا تتكون كيفما اتفق بل لا بد لها من اسس تتحدد في مرجعيتها وفي أهدافها.
وقد سبق أن بينت في عدة محاولات أن هذه المرجعيات ليست لامتناهية والأهداف السياسية محدودة جدا ولا تتجاوز التواليف والترتيب بين العاملين الاقتصادي والاجتماعي لسد الحاجات المادية والقيمي والخلقي لسد الحاجات الروحية.
وما وجدت في أي حزب تونسي أثرا لهذه المقومات بل هي عموميات تثبت التنافس على دعاوى إما حول الهوية أو حول ما يسمونه نمط المجتمع بالمقابلة بين ماضيين: ماضي الجماعة التاريخي وماضي مستعمرها التاريخي لأن ما يحاكونه من ثقافته تجاوزه منذ عقود بعد أن أصبح يؤسس شروط سيادته على الجمع بين وطنيتين قطرية وقارية.
• القسمة الاولى:
تتعلق بالأحزاب ذات الوجود الفعلي المتقدم على الثورة و”نخبها” والاحزاب التي تلتها و”نخبها”.
وحتى نصف هذه فإن أول معيار لتوصيفها هو أنها إما منشقة عن الأولى أو ناتجة عن تفتتها بسبب الثورة أو تعرف نفسها بما يمكن أن يعتبر انشقاقا ليس عليها بوصفها كانت في حزبها ثم خرجت عليه أو عارضته بل هي مشتقة من رؤية أخرى لأساسها وعلى ما يغلب عن برنامجها. والمثال الاوضح من الانشقاق عن الأولى كأحزاب هو مثال كل الاحزاب التي تفرع إليها الحزب الذي كان حاكما والمثال الأوضح عن المشتقات من الرؤية هي الأحزاب الاسلامية غير النهضة. أما الأحزاب اليسارية والقومية فإنها بقيت كما كانت ولم ينشق عنها أحد لأنها من الأصل مفتتة.
• القسمة الثانية:
تتعلق بالأحزاب التي نشأت بعد الثورة أو التي صارت ذات وجود فعلي بسبب الثورة مثل حزب المرزوقي وابن جعفر. فهذان الحزبان يمكن اعتبارهما لم يصبحا بحق فعليين إلا بفضل الثورة.
لكن الأول تفتت إلى أحزاب والثاني تفتت على الأحزاب.
وكلاهما لم يعد له وجود إلا في الأقوال بسبب فقدان القاعدة الشعبية. لكن حزب المرزوقي يشبه الحزب الذي كان حاكما بمعنى أن الذين انتسبوا إليه كونوا أحزابا بعدد “زعماء” النخبة التي دخلت السياسة عن طريق حزب المرزوقي لكنهم لا يعترفون بذلك مثلما يعترف فتات الحزب الحاكم بما يدعيه من نسب بورقيبي. فهم جميعا يتبعون علمانية المرزوقي مع درجات مختلفة من الاقصاء إزاء الحزب الإسلامي الذي لولاه لما كان لهم وجود سياسي أصلا لأن المرزوقي نفسه لم يكن له إلى شبه حزب قبل الثورة وبها مع مساعدة الحزب الإسلامي صار هو نفسه ذا “وزن” سياسي بوصفه رئيسا لا غير.
• القسمة الثالثة:
الاحزاب التي نشأت عند من شاركوا في حكومات الثورة بعد الترويكا إما مع الباجي أول أو مع جمعة أو مع الشاهد. وهؤلاء كلهم بنحو ما مشتقات سياسة الباجي في التصدي للإسلاميين. وهم إذن يتقدمون لوراثة هذا المشروع وإذن فهم يقتاتون من فضلات النظام السابق ويعتمدون على الثورة المضادة العربية والسند الدولي.
• القسمة الرابعة:
الاحزاب التي يمكن اعتبارها مجرد منصات لبعض الافراد الذين يريدون تكوين رصيد يجعلهم مطلوبين من الأحزاب السابقة لتوسيع قواعدها وهؤلاء كلهم مرشحون للانضمام إلى أصحاب القسمة الثالثة. وقليل منهم أعني الأكثر انتهازية قد يطمحون للانتساب إما إلى الصنف الثاني بدعوى الثورية أو إلى الصنف الاول بالسعي المباشر للغاية من تكون الحزب أي المشاركة في السلطة في أقرب فرصة.
• القسمة الاخيرة:
ما وراء الاحزاب أعني المافيات الداخلية التي تنوب المافيات الخارجية التي تمول الأحزاب والجمعيات لتحقيق أهدافها باستراتيجية سن تسو أي بأقل كلفة لأن تحقيق النصر حينها يكون بأيدي أبناء البلد. وهذا الماوراء ينقسم إلى: حزب فرنسا وحزب إسرائيل وحزب إيران وحزب الحمقى من أمراء البترول. فهذه الاحزاب موجودة في كل الاحزاب أي في الأصناف الأربعة التي ذكرتها دون استثناء بمعنى أن الإسلاميين أيضا صاروا مخترقين في البداية دون أن يكون ذلك بإرادتهم لكنه صار الآن بإرادتهم لما علموا أنه الشرط الضروري وأحيانا الكافي للمشاركة في الحكم ولو في شكل سترابونتان.
هكذا أفهم الساحة السياسية.
ولا احتاج للكلام على الساحة الإعلامية لأنها تابعة لهذه القسمة الأخيرة إذ هي الأداة الثانية في عمل المافيات الداخلية الخادمة للمافيات الخارجية. أما الأداة الأولى فهي معدن العجل لأن الثانية هي خواره. وإذن فالقسمة الأخيرة تتعلق بالحكم عن طريق دين العجل: الحكم بالمال وبالخوار.
والأول الجميع يفهمه وهو علة تكاثر الأصول التجارية التي تسمى أحزابا وجمعيات وصحافة والثاني هو علة الايديولوجيات التي يمثلها هذا الماوراء لكل الاحزاب السياسية في تونس.
هذه القسمة الأخيرة هي أصل ما تقدم عليها لأن تونس ككل بلاد العرب ليست دولة مستقلة بل هي محمية بكل معاني الكلمة وقد صارت كذلك بعد ما يسمى الاستقلال أكثر مما كانت قبله عندما كانت محمية رسميا بمقتضى معاهدة باردو. اتفاقيات الاستقلال المزعوم أسست لتبعية أعمق من السابقة: ذلك أن الحماية الأولى كانت دون القدرة على تغيير ثقافة الشعب في حين أن الثانية كان أهم عناصرها هذا التغيير فضلا عن نهب ثروات البلاد. ولما كان تغيير الثقافة هدفه استعباد العباد صارت الحماية ليس من أجل الثروات والموقع الجغرافي الاستراتيجي لتونس وحدهما بل أيضا لجعل أبناء تونس يصبحون خدما في استراتيجية أعدائها.
وهذه الظاهرة عامة وليست مقصورة على تونس. والجزائريون بدأوا يفهمون ذلك وتلك هي علة ما يجري فيها حاليا وعسر الخروج منه لأن كل من ذكرتهم في هذا العنصر الاخير يعمل فيها أكثر مما يعمل في تونس بسبب ثقل الجزائر وفهم الأعداء ان تحررها باستكمال تحريرها يعنيان تحرر افريقيا كلها وربما كل الإقليم العربي التركي الكردي الأمازيغي لتصبح الضفة الجنوبية الشمالية من الابيض المتوسط ندا للضفة الشمالية التي هي بدورها متعددة الأقوام دون أن يحول ذلك دونها وبناء وحدة هي شرط السيادة في عصر العماليق.