لا أعتقد أن السعودية ستستفيد في المدى القريب من الفرصة التي أمد بها أردوغان الأسرة الحاكمة فيها والتي تدل على أن الرجل فعلا يريد أن تتحرر الأمة من الوصاية الغربية سواء كانت مباشرة أو بواسطة أذرعها في الاقليم. ذلك أني أشك أن هذه الأسرة ما زال فيها ما يمكن أن يعتبر صالحا لحكم دولة حديثة بحجم السعودية. لو كانت أميرة مثل أجوارها لأمكن لي تصور ذلك ممكنا.
الأمل الوحيد في الشعب وبعض نخبه الصالحة.
والمعيق الوحيد هو البنية القبلية التي يعسر أن تجد بينها نخبا يمكن أن تعتبر متعالية على هذه البنية بحيث تقود حركة شعبية ممثلة لهم جميعا وتستطيع إخراج السعودية من مأزقها الوجودي. فالأمر يتجاوز ما فعله هذا الأمير الاحمق. الأسرة التي تحكم تناور دون مشروع دولة فضلا عن استئناف دور الأمة. والنخب يسيطر عليها الكاريكاتوران: التأصيلي والتحديثي ولم يتحرر من يفهم العصر من نخب العرب عامة ونخب السعودية خاصة من سلطان هذين الكاريكاتورين المستبدين بالأمر.
لما جاء سلمان وتابعت ما نسب إليه في البداية في كتابات من أحترمهم من النخبة السعودية وخاصة خاشقجي والصديق أستاذ علم الاجتماع وخاصة من الحملة التي قادها عليه ذباب السيسي لما لاحظوا موقفه من شلة سلفه آملت أن تكون السعودية قد بدأت عهدا جديدا طمأنني إليه عملان لأني لا أكتفي بالأقوال.
العمل الأول هو تشبيب القيادة عندما عين ولي العهد وولي ولي العهد-لم أكن أعلم أن ابنه أحمق لهذه الدرجة-والعمل الثاني محاولة التصدي للاختراق الإيراني في اليمن -لم أكن أعلم أن تنمر الحوثيين كان بفعل سلفه ومع ذلك فالعمل كان جديرا بالتشجيع خاصة والأمر يتعلق بما يتهدد الحرمين.
فكتبت عدة مقالات عللت حملات علي من عملاء إيران خاصة -ولنا منهم الكثير في تونس-متصورين أني أكتب مقابل أجر مادي من السعودية ثم لما تغيرت سياسة الحكم فيها وتبينت حقيقته قلبوا التهمة فجعلوني أجيرا عند قطر وتركيا. وهم يعلمون أني لو كنت قابلا للتأجير لبقيت في الحكومة إلى الآن.
ولست أكتب هنا لأدافع عن نفسي لأن غني عن ذلك إذ الجميع يعلم أنها تهم كاذبة ممن يسقطون صفاتهم على غيرهم لأنهم من ا لمخلدين إلى الأرض. كتبت لأشير إلى أني كتبت ما كتبت منذ 2004 لما كنت في كوالالمبور لما وضعت نظرية المربع وقطرين في كلامي على شروط استئناف الأمة دورها في العالم.
فقد اعتبرت عواصم الخلافة الأربعة المتوالية هي مركز المعركة التاريخية التي نعيشها.
فالمربع يتألف من:
1. المدينة
2. فدمشق
3. فبغداد
4. فإسطنبول.
وبينت أن القطر الأول يصل بين المدينة بداية واستنبول غاية وبينهما قطر يمكن إن تحقق أن يكون بالوصل والتواصل بداية تحرير الإقليم كله من القطر الثاني الذي يقطعه في بادية الشام ليصل بين بغداد ودمشق بعد أن أصبح منذ غزو بغداد وحلف دمشق مع طهران منبع كل أمراض الأمة التي توقعتها منذئذ والتي نراها حاليا بالعين المجردة.
ومع ذلك فإن مبادرة المرحوم أربكان كانت في ذهني وكنت أتصور أن مثاليته جعلته يقلب الصفحة الطائفية فضم إلى مثمنه إيران. ولما كنت اعتقد أن إيران أكثر عداوة للأمة حتى من إسرائيل بسبب نقمتهم على العرب وحلمهم باسترداد امبراطورية فارس بخلاف رؤيته والتاريخ أثبت رأيي في مسعاها.
وقد كتبت في موضوعين لما أحسنت الظن بما بدا تحولا في النظام السعودي استنادا إلى كتابات سعودية أعلنت عن مسعى الملك إلى انصاف الثورة في مصر وإلى الحملة المعادية له في صحافتها في الصحافة المصرية وإلى ما سمي بعاصفة الحزم ثانيا. فكتبت في مزيا التشبيب وشروط تجديد الدولة وفي الاستراتيجية التي رايتها فاسدة في ما سمي عاصفة الحزم.
وأبدأ بإصلاح الدولة. فقد اقترحت أمرين: نظامها وأساسها. الأول نظامها وضع نظام دستوري يمكن من مأسسة الحكم في ملكية دستورية بالحد الأدنى الذي يوجد في المغرب وفي الكويت وفي الأردن على الأقل إذ لا مطمع الآن في الوصول إلى نظام الملكية الدستورية مثل النظام الانجليزي. والثاني أساسها فاعتبرته شرطا في الأول ويتألف من أمرين: إزالة الفصل بين الشعب والأسرة الحاكمة وإلغاء امتيازات الأمراء.
واقترحت أن يوظف من كان منهم ذا كفاءة في أي مهنة ولو رسمية وأن يمد الباقي بما يمكنهم من فتح باب رزق وألا يبقوا عالة على الدولة. ومن دون ذلك فالدولة السعودية تبقى مجرد مافية إمارية تعتبر الشعب عبيدا والبلاد ملكية خاصة لمن غزاها عندما أنشأ الدولة في عصر الشعوب التي لم تبق أمية وفي عصر الإعلام المعولم.
كنت أعلم أني اقترحت ما قد يبدو مستحيلا. لكن ذلك مما لا مفر منه وإلا فالسعودية لن تصمد إلا كمحمية أبدية يبتزها أمثال ترومب وحتى السيسي دمية اسرائيل بالقول إنها من دون يمكن أن تسقط تحت الاستعمار الإيراني في أقل من أسبوعين. ومن ثم فما يبدو مستحيلا إذا كان هو الحل الوحيد يصبح ممكنا عند كبار الزعماء.
وكان من شروط ذلك التعامد بين:
• القطرين السعودي التركي بقيادة ندية بينهما لحمايتهما المبادلة ولتحقيق شروط استئناف دور الامة من جهة.
• والقطرين العراقي السوري بقيادة إيرانية لتخريف شروط الاستئناف في مشروع لا يختلف عن المشروع الإسرائيلي لاسترداد تاريخ متقدم على الإسلام.
وهذه هي المعركة الجارية حاليا. فإيران مثلها مثل إسرائيل تريد استرداد تاريخ متقدم على الإسلام وتباهي باسترجاع أربعة عواصم عربية فاصلة بين العرب والأتراك أعني بين قطبي المربع الأول والأخير في دولة الإسلام أو الخلافة بين المدينة واستنبول. لكن النظام السعودي فرض على تركيا أمرا آخر فصار حليفا لمن يريد تخريب وحدتها (إيران وإسرائيل بتوسط مؤامرات دميتهما الإماراتية والعلمانيين من الأكراد).
والدم المشترك -خاشقجي الذي هو تركي عربي أو تركي سعودي-أراد الله أن يجعله فرصة لإمكانية عودة الوعي للأسرة الحاكمة في السعودية فتفهم أن معاداة تركيا هي لصالح إيران وإسرائيل وليست لصالحها وأن تركيا تتعامل معها دائما بأمل عودة هذا الوعي لأنها لا تقل حاجة عن السعودية لهذا الحلف.
أما الأخطاء الاستراتيجية في حرب اليمن فكتبت فيها عدة مقالات. وكانت الأولى ناتجة عما سمعته لما كان أحد ضباط السعودية يقرأ كتابا في الاستراتيجيا بذكاء يمكن أن نعتبر صاحب المنشار عبقرية بالقياس إليه. فاضطررت بالتذكير بأبجديات الحروب بمقتضى الظرفين الجغرافي (جغرافية اليمن) والتاريخي (العولمة الإعلامية).
وبينت أولا أن عاصفة الحزم حربان وليست حربا واحدة: الأولى هي حرب منع تكون “حزب الله” الحوثي الإيراني على حدود السعودية وهذه هي التي ينبغي حسمها أولا وفي أقل من شهر لأن الغطاء الدبلوماسي سيتآكل ولن يطول أمده ومن ثم فلا بد من البدء بها وترك الحرب الثانية للشرعية اليمينة مع مدها بكل ما تحتاج إليه لتنجح فيها وهي ستطول كثيرا.
والعلة في كونها ستطول مضاعفة: الطبيعة الجغرافية والطبيعة الانثروبولوجية لثقافة اليمن. فالأرض ذات تضاريس كثيرة والشعب ذو قبائل كثيرة. والحرب في هذه الحالة ليست عسكرية بل هي أساسا تعامل بمنطق رؤساء القبائل التي تبيع الولاء بالمال والتحكم في المكان من حيث شبكات الطرق وشروط التنقل فيها. وهذا يترك للشرعية.
بحيث تكون هذه الحرب التي هي شرعية عالميا يمكن أن تكون الغطاء الدبلوماسي للحرب الأولى التي هي منع تكون جنيس حزب الله على الحدود والتي إذا لم تحسم بسرعة فستصبح دملا شبيها بدمل جنوب لبنان في خاصرة السعودية لصالح إيران. لكن الغباء الاستراتيجي جعل التحالف يجري وراء الحوثيين في الجنوب.
كتبت عدة محاولات ثم يئست إذ تبين لي أن قيادة السعودية أصبحت تابعة للإمارات التي لها أجندة مختلفة تماما عن تحرير اليمن من الحوثي بل هي متحالفة مع الحوثي وصالح لتركيع السعودية. ولما كان الأمير الأحمق قد سيطر على السعودية وجعلها تابعة لمجرم الإمارات ودمية إسرائيل يئست ولم أعد أبدي رأيي في الأمر.
لماذا ذكرت بكل هذا؟
لعلتين:
أولا : لأني ما يبرر تدخلي هو ما أوليه من أهمية لدور السعودية فهي البلد العربي الكبير الوحيد الذي بقي فيه حشاشة بعد ضياع العراق ومصر وسوريا والجزائر.
ثانيا : لأن الحرمين بدآ يصبحان في وضعية القدس إذ إن الغبي صاحب المنشار جعلهما محمية إسرائيلية.
ورغم أني لا أعرف خاشقجي شخصيا ورغم علمي أنه ليس ثوريا بل إصلاحي فإنـي اشترك معه في أمرين: الأول أنه أدرك العلاقة بين القدس والحرمين لما قال قولته الشهيرة من يضيع القدس لا يؤتمن على الحرمين وأدرك ضرورة الحلف بين السعودية وتركيا والموقف الإيجابي من الربيع المترتب عليه. وآمل أن يوجد في نخبة السعودية من يواصل نضاله.
خطاب أردوغان أمس كان كله لصالح السعودية لو كانت نخبها حقا تريد الخروج من المأزق.
فلكأنه قال لهم: فلنحل المشكل بيننا حتى لا تبقوا ضحايا الابتزاز الأمريكي والإسرائيلي وحتى لا أبقى ضحية الابتزاز الروسي الإيراني. لكأنه يطبق نظرية “مربع العواصم” وقطريه التي وصفت دون تصريح.
لكني لسوء الحظ أشك كثيرا في أنه يوجد الآن في الأسرة الحاكمة من لهم القدرة على ذلك. فالأمير الاحمق قضى على مراكز القوة فيها وابعد ما بقي فيها من حكماء وما أخافه حقا هو أن يفرض عليهم ترومب وإسرائيل طلاء سطحيا قد يزيد التخريب تعميقا ويصبح البديل دمية مثل المبدل منه.
ومع ذلك فإنه يوجد أمل: فالألسن حلت من عقدتها وصارت النخب السعودية أكثر جرأة على الكلام وذلك بفضل تضحية خاشقجي. لم يعد بوسع أي كان أن يسكت النخب الصالحة في السعودية وهي كثيرة. ولن يستطيع أحد بعد هذه الفعلة الشنيعة أن يمنع الانتقال من القلب إلى اللسان.
وإذا لم تتدارك الاسرة الحاكمة الامر فإن الخروج من اللسان إلى اليد سيحصل وهو ما أقصده بالموجة الثانية من الربيع العربي: ستكون خليجية وبالذات سعودية هذه المرة.
ذلك أن الرفض القلبي حصل والرفض اللساني بصدد الحصول وإذا لم يحصل التغيير سيأتي رفض اليد أي الثورة.