بورقيبة هل ترك ما يقبل أن يرثه غيره؟

Photo

هذه محاولة أسعى فيها لبيان النتجية التالية : البورقيبية ماتت ميتتها النهائية ولم يبق منها ما يقبل البعث محليا-اقليميا (التوازنات بين دول الإقليم) ولا اقليميا دوليا (التوازن الدولي حول استتباع الإقليم). والمحاولة موجهة إلى نوعين من المخاطبين :

الأول : إلى كل المتذاكين بعد السبسي سيكون حظهم أتعس من حظه رغم عنتريات مرزوق وجوقته من الفاشلين سياسيا ومن العاجزين حتى على لعب لعبة الجبهة الشعبية.

الثاني : إلى كل من يتوهم الحلف مع النداء سواء بشكله الموجود أو الموعود هو الاستراتيجية التي أعنيها عندما أتكلم على الدستوريين. فهؤلاء ليسوا بورقيبيين بالمعنى الذي سأصف بل هم ممن قبلوا بالأمر الواقع بعد هزيمتين ضد الحلف الذي فرض البورقيبية أو ممن انطلى عليهم نفاق النهج البورقيبي-واعتبر نفسي واحدا منهم-فظنوا أنه لم يكن موظفا في عملية النقلة من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر بل اعتقدوا أنه كان متطرفا في التحديث لا غير.

لذلك فعندي أن الحلف المناسب هو مع من تخلص من هذا الخطا من الدساترة ليعودوا إلى أصل حركة التحرر التونسية التي كانت جامعة بين القطري والإقليمي على الأقل ومع تشوف لما يتجاوز الاقليم لتعود تونس إلى دورها التاريخي الكريم :

ففي المرات الأربع التي خرجت فيها تونس عن هذا الدور الكريم أصبحت مستعمرة ذليلة يهان شعبها ولا يسهم بدور كوني في بناء الحضارة الإنسانية (استعمار روما وبيزنطة واسبانيا وفرنسا).

وفي المرات الأربع التي استعادت فيها تونس دورها الكريم أصبحت قاعدة مؤثرة في الإقليم بل وفي العالم : مع الخلافة الأموية ومع الخلافة العباسية ومع الخلافة العثمانية ومع الدولتين المغربيتين الشاملتين.

وإذن فصف المخاطبين الأول ليسوا بورقيبيين أيضا ولا يساريين بل هم ارادوا بهذه اللعبة استغلال قاعدة التجمع في معركة انتخابية مستعملين الديموقراطية للقضاء عليها نهائيا بحرب أهلية ضد الثورة وكل المخلصين لتونس ودورها المحلي والإقليمي وحتى الدولي. فهدفهم الحقيقي هو التنسيق مع بعض المراهقين في الجبهة ليكون لهم في آن الحكم (في النداء) والمعارضة (في الجبهة) حتى يحكموا الاستعداد لخلافة السبسي مع حلف خفي مع الاتحاد ظنا أن السبسي "حريبشة للبلعان".

ولما افتضحت خطتهم حصل الانفجار في النداء. لكن مآلهم سيكون نفس الفشل الذي اصاب النداء في نسخته السبسية بل وسيكون فشلا أفضع لأن أصحابه ليس لهم خبرة السبسي فضلا عن انعدام العلاقة المباشرة بالبورقيبية مثله. ويمكن أن نثبت هذه النتيجة التي اعتبرها غير قابلة للدحض حتى بالأقوال منطقيا فضلا عن دحضها بالأفعال سياسيا خاصة وجل ما بقي من التجمع يدأ يتجمع زرافات ووحدانا ما يثبت أن البورقيبية لم تخلف إذ من كانوا من جيله انقرضوا ومن كانوا أصغر خصاهم ابن علي. والمحاولة التي أقدمها ذات بعدين كلاهما مشروط في كل تحليل يمكن أن يعد منتسبا للفلسفة السياسية أو بصورة أدق من دونهما لا يكون الكلام في السياسة مفيدا:

أولهما يخص السياق الذي كانت فيه التجربة البورقيبية ممكنة بمقتضى التوازنين "محليا-اقليميا" و"اقليما-دوليا" وأصبحت مستحيلة نهائيا بمقتضى تغير هذين التوازنين الكيفي.

والثاني يخص مضمون البورقيبية نفسها. فهي لم تكن حركة ذات مضمون قائم بذاته بل هي وظيفية في خطة النقلة من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر ومن ثم فهي لا يمكنها أن يتجاوز المرحلة التي لم تعد مناسبة للعصر بهذين المحددين. مضمون البورقيبية سلبي. فليس له طموح ذاتي بناء بل كان يندرج ضمن خطة تهديمية شرطا في تأسيس القطر المنفصل عن محيطه نفيا للمحدد الجغرافي والتاريخي لأنه كان يؤدي وظيفة في خدمة مطالب أصحاب هذين التحديدين وتعبر عن يأس من أي انبعاث للأمة التي ليست تونس إلا جزءا منها.

السياق السياسي المحلي والجيوسياسي

مرت تونس بأربع مراحل من حيث رؤ ية نخبها لهويتها الحضارية ومن ثم لدورها السياسي قبل أن تصل إلى المرحلة الحالية أو مرحلة الثورة. فقبل الاستقلال ككل بلاد الإقليم السنية مرت تونس بنوعين من الشرعية السياسية التي كانت ملائمة محليا-اقليميا (لأن التوازن في علاقة دول الإقليم كان له هذان البعدان) واقليميا دوليا (لأن التوازن في الخارج بالأقليم كان له هذان البعدان) لتجربة لها خصائص البورقيبة.

وهذه الخصائص كانت مشتركة للكثير من الزعامات في المستعمرات خلال مرحلة ما بين الحربين وتجربة تأسيس الدول « الوطنية » التابعة للمستعمر الذي اعترف لها بسيادة شكلية لتحقيق شروط النقلة من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر. فكل الزعامات كانت تستمد شرعيتها من دورها في مرحلة تخلخل ظاهرة الاستعمار المباشر بعد الحرب العالمية الأولى:

- الشرعية الأولى متقدمة على سقوط آخر خلافة إسلامية (1924) وكانت فيها كل الحركات السياسية حتى وإن لم تصبح بعد أحزابا ذات أفق احيائي بفكر متجاوز للأقطار من حيث الحيز التاريخي حتى وإن كان غير متناف مع القطرية من حيث الحيز المكاني.

- الشرعية الثانية التي تلتها كانت فيها حركات التحرير مشدودة إلى نوع من الحنين الباهت إلى الخلافة مع شبه يأس من عودتها وإلى نوع من بناء الدولة الوطنية القطرية التي كانت تتدرج نحو القطع النهائي مع هذا الحلم على الأقل لدى النخب التي كلفت بمهمة النقلة من الاستعمار المباشر إلى غير المباشر.

كما مرت بعد الاستقلال ككل بلاد الإقليم أيضا بنوعين من الشرعية قبل أن تنتهي مرحلة استفراد النخب التي خدمت مرحلة الاستعمار غير المباشر في ظرف ثنائية القطبية وبداية تخلخل ظاهرة الاستعمار غير المباشر منذ نهاية الثنائية القطبية وعودة الحضارات القديمة إلى الطموح التاريخي:

- الشرعية الثالثة متقدمة على إفلاس الشرعية التاريخية وفشل التجربة التي انتهت بانقلاب على نخبة الاستقلال بعد فشل كل محاولات تجديد فكرها وخاصة بعد أن حصلت نكبة التعاضد وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي ومرض بورقيبة النفسي والبدني:

محاولة المستيري المتعلقة بأسلوب الحكم في الداخل لتعويض الشرعية التاريخية بالشرعية الديموقراطية بمعادلة متناقضة في ذلك الوقت جمعا بين الديموقراطية والاشتراكية في مجتمع فشلت فيه التجربية التعاضدية وليس له ثقافة الحكم الديموقراطي : في الحقيقة لم يكن للمستيري قاعدة شعبية بل قاعدته كانت من الإسلاميين خاصة. وقد كان في وضع الشابي في نظام ابن علي : مجرد مظلة لقاعدة لا تؤمن بخياراته بل تستظل به لا غير.

ومحاولة المصمودي المتعلقة بتصدع المنزلة في الإقليم .فمحاولة الوحدة مع ليبيا كان من الطبيعي أن تقابل بالفيتو الجزائري خارجيا وبحزب فرنسا داخليا وخاصة بخوف بورقيبة وبطانة نظامه المقربين من سيطرة القذافي على الكيان الحاصل من الوحدة.

لكن الضربتين القاتلتين للبورقيبية هما داخليا الصدام مع الحليف الداخلي (طموح حليف بورقيبة ضد ابن يوسف قائد الاتحاد) وخارجيا فقدان الدور بعد استقلال الجزائر وسعي الجمهورية الخامسة لتغيير سياستها العربية. ولم يكن بوسع أمريكا أن تغضب فرنسا ولا الجزائر وكلاهما كانا متمردين عليها. فاصبح بورقيبة بين مصر والجزائر محاصرا فاقدا لكل دور في سياسة الإقليم ومن ثم في السياسة الدولية. ولعل الضربة القاضية كانت أحداث بنزرت التي أنهت تقريبا علاقته بفرنسا وبالجزائر في آن (لأن المعركة لم تكن في بنزرت وحدها بل كانت كذلك في الجنوب حول البرمة).

-والشرعية الرابعة التي تلت نهاية الشرعية التاريخية للبورقيبية تمثلت في محاولة التدارك للتخلص من موت النظام البورقيبي بما يمكن أن نسميه على الاقل في بدايته وأقواله بشرعية الانقاذ التي تآكلت وكانت نهايتها الفشل الذريع.

وبذلك وصلنا إلى الشرعية الحالية أو شرعية الثورة التي لم تحدد إلى الآن خياراتها بين القطبين الذين كانا يشدان حركة التاريخ في الإقليم في بداية القرن الماضي . فالثورة التي نعيشها حاليا نراها وكأنها قد أرجعت المحلي والإقليمي إلى ما يماثل المرحلة الأولى قبل الاستقلال ومن ثم إلى سياق دولي شبيه بالذي كان سائدا حينها أو بصورة أدق إلى سياق يحاول منع انبعاث ذلك السياق بمنع عودة الحضارة الإسلامية إلى دورها بعد أن تبين أن محاولة القضاء عليه لم تنجح.

سياق التجربة البورقيبية

فكيف ننزل التجربية البورقيبية وهل ما يزال لها أفق يمكن أن تندرج فيه بعد أن فقدت دعامتيها المحلية والدولية وفشلت في مشروع التحديث المستبد الذي اكتفى بالفترينة كما تبين من خلال الثورة. ولعل أبرز علامات هذا الفشل هو الكسور الخمسة التي تعاني منها تونس والتي تمثل الآن أهم عوائق نهوضها :

1-كسر التفاوت الجهوري وأحواز المدن الكبرى: الفقر المدقع في جل تونس.

2-كسر التفاوت الطبقي : المافية الحاكمة والمنتفعين منها قضوا نهائيا على الطبقة الوسطى .

3-كسر النموذج الحضاري : شبه صدام حضاري بين الشعب والمنتفعين من النظام السابق.

4-كسر النموذج التربوي : اصبح النظام التربوي محوا للأمية ومنبتا للبطالة.

5-كسر النموذج التنموي : التبعية المطلقة للقطاعات الهشة التي من جنس خدمات السياحة.

فرضيتي أن التجربة البورقيبية لم يعد فيها أي نسغ حياة يقبل البعث. وذلك لعلتين هما التوازنات الـ"محلية الاقليمية" (بين دول الإقليم) والتوازنات الـ"اقليمية الدولية » (بين دول الإقليم والمحيط بها).

فكيف تطورت التجربة ولم تعتبر قد ماتت موتة نهائية ومن ثم فهي لا تقبل التوريث بل هي بحاجة إلى مراسم دفن لعل نصي هذا هو بدايتها. فكل من يدعي بناء سياسة على إرث بورقيبة يولد ميتا. وما صح على السبسي سيصح من باب أولى على كل من يتصور أنه يمكن ان ينجح في ما فشل فيه آخر ثعالب الجيل البورقيبي.

ورغم أني في شبابي لم أكن في قطيعة تامة مع البورقيبية ونصحت قيادات النهضة بعدم المساس بصاحبها حفاظا على الرموز واستغناء عن معركة مع الأموات فإن صلتي بها كانت دائما نقدية (والكتابات شاهدة منذ حرب 67) بسبب ميلين يناقضان البورقيبية (ميلي العربي الإسلامي) دون أن يمنعاني ألا أنفي عنها بعض الجاذبية بخصوص النهج التحديثي حتى وإن كان فيه الكثير من الإفراط (في التبعية الحضارية) والتفريط (في التأسيس المتين لدولة القانون). وذلك هو أهم تناقض في البورقيبية ومنه جاء مقتل التجربة. فلا يمكن أن تدعي أنك حداثي وتكون مستبدا في آن. ولعل ذلك سر فشل التجربة الاشتراكية في العالم كله.

فاستبداد البورقيبية لم يكن من جنس الاستبداد البناء الذي يبرر وجوده بمشروع طموح يطلب علل الحداثة لا نتائجها المباشرة ويتطور بالتدريج نحو الديموقراطية سياسيا والعدالة اجتماعيا كما حدث في جنوب شرقي آسيا الذي حقق النمو الاقتصادي وشرع في تحقيق ثمرته الديموقراطية.

إنما كان استبداده جنيسا لاستبداد شيوخ القبائل أعني تسلطا بدائيا يعتبر الدولة مزرعة شخصية وفترينه لأوهامه التغريبية لأنه غير واع بالشروط المادية والمعنوية لسيادة الدول. ولعل أفضل رمز مقارنة وضع المنستير خاصة والساحل عامة بوضع المناطق المحرومة. ما كان يعنيه هو الفترينة والتشبه بالمستعمر لأنه في الحقيقة مثل غالب أبناء جيله كان يعاني من عقدة إزاء الفرنسي : مستعمر ذهنيا.

علل فشل البورقيبية الذريع

لكن الحبيب بورقيبة كان حيوانا سياسيا بارعا فلعب على حبل الشرعية الأولى التي كانت تشد زعماء الجيل السابق المخضرمين بين وحدة الأمة والدولة القطرية, فاستفاد من أول حزب ذي توجه يجمع بين القطرية والعالمية الإسلامية. ومن الأكاذيب الزعم بأن الحزب القديم لم يكن متصلا بالشعب لأن جل الشعب كانت سابقة لانضمام بورقيبة جيل الشباب لحزب الدستور.

ولما تمكن قرر القطع مع هذا التوجه الثاني نهائيا لكنه أبقى على شعرة معاوية مع هوية الشعب. فضرورات المقاومة كانت تقتضي مواصلة اللعب على اللغة المزدوجة والزعم بالحفاظ على الهوية بنفاق سياسي واضح. ولعل السبسي يكثر منه حاليا دون أن يدري أن ذلك لم يعد ينطلي على شباب الثورة حتى وإن انطلى على آبائهم. ما كان ينطلي في جيل بورقيبة لم يعد مسموعا. والرمز هو استعمال الشواهد القرآنية في الأقوال بسلوك ينافيها في الأفعال.

وكان الفرنسيون يساعدون البورقيبية ضد الثعالبية لخوفهم من أصحاب التوجه الذي لم يقطع مع ما يتجاوز القطرية الذين كانوا مشدودين إلى ما يتجاوز إلى جغرافيا وتاريخ مشروطين في كل نهضة ذات قدرة على حماية الشعب ورعايته. لكن لحظة الاستقلال فرضت أن يصبح القطع صريحا -ولعلها كانت مشروطة به-فتمت القطيعة إذ هي اكتملت حتى مع حده الأدنى. وذلك ما يفهمنا المعركة مع التوجه اليوسفي فكانت الخاتمة أحداثا قريبة من الحرب الأهلية لم يفز فيها التوجه البورقيبي إلا بعاملين أحدهما داخلي والثاني خارجي:

فأما العامل الداخلي فهو ما مكنه منه حلفه مع قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أعني علتى التعيين الحبيب عاشور وبنحو ما احمد بن صالح وكل ثعالب الجيل ممن كان لهم الطموح الذي يشبه المرض الحالي الذي فتتت النداء بسبب الخطأ الذي أريد الكلام عليه.

وأما العامل الخارجي فهو ما مكنه منه حلفه مع الجمهورية الفرنسية الرابعة التي كانت حينها في صراع مع بدايات امتداد الزعامة الناصرية إلى الساحة المغاربية عامة ولدورها في حرب الجزائر خاصة والحليفة الأمينة التي مكنت إسرائيل من النووي.

وبعد زوال الظروف التي حققت هذين الحلفين لم يبق للبورقيبية ما يمكن أن يرثه غيرها منها ليكون جامعا بشعاراتها إذ هو اضاع منزلة تونس في علاقة المحلي بالاقليمي ويلزم عنه تهميشها في العلاقة بين الإقليمي والدولي. ولما كان الرصيد التاريخي يتآكل ككل رصيد فإنه لم يبق للبورقيبية شيء يعتد لأن بروباغندا "المجاهد الأكبر" كشفت الثورة كل أكاذيبها في الكسور الخمسة التي قدمت. ليس للإرث البورقيبي ما يحقق شروط التوحيد الإيجابي لأن قدرته على الجمع ذهبت مع ذهاب المصالح المشتركة مع حليفيه وتهلهل بروباغندا الشرعية التاريخية.

فالحليف الداخلي لم يعد بوسعه أن يحالف باجندة بورقيبية لعلتين : فهو أولا يعلم أنها فقدت الشرعية وخاصة منذ أن تصادم معها سنة 78. وهو يعلم ثانيا أنه يعيش برضع الدولة. ومن ثم فهو يبحث عن حليف يبقي له البقرة الحلوب : الدولة. وهذا غير ممكن مع ورثة البورقيبية وخاصة إذا مالوا إلى اليسار ببرنامجه الاجتماعي الديماغوجي وبنموذجه الحضاري المعادي للهوية.

والمعلوم أن البورقيبية لم يستقر لها الأمر إلا بفضل هذين العاملين في مناخ دولي يعتمد على القطبين. وهو لم يحكم إلا بمقاسمته سلطانه مع حليفيه الداخلي والخارجي. ومن ثم فما كان جامعا في الحقيقة ليس كما قد يظن الكثير هو مضمون رسالة بورقيبية موجبة حقيقية تمثل برنامج عمل بناء يحقق شروط السيادة لدولة قادرة على حماية نفسها ورعاية شعبها بل هو كان يحكم بمقايضة مع هاتين القوتين.

وهم بعث البورقيبية

ما لم يفهمه من يدعون اليوم بعث البورقيبية هو أن الشرعيات الأربع فقدت القدرة على أداء نفس الوظيفة اليوم وخاصة منذ أن حصلت الثورة التي ما كانت لتحصل لو بقي لها وللحليفين نفس القدرة. وذلك هو ما يجهله من يدعون استئناف رسالته.

شرعية الثورة وفرصة تونس

ولكن الله أعاد لتونس شرعية الدور الأكثر فاعلية وتلك هي وضعية الشرعية الخامسة التي تمثلها ثورة الشباب بجنسيه. فقد أعادت الثورة لتونس دورا في التوازن المحلي الإقليمي (صارت مهابة الجانب في الإقليم) وفي التوازن الأقليمي الدولي (لم يعد بالوسع النظر إلى العرب نفس النظرة بفضل ما قام به شباب تونس بجنسيه) وكان التوازنان رهن المسار الثوري الحالي فإن كل المتشبثين بما تقدم عليه وخاصة كل المتحالفين مع الثورة المضادة لا ينتظرهم إلا النهاية المحتومة.

ولما كان وهم اعتماد القوميين على خدع الممانعة التي يدعيها حليفهم السوري والإيراني ومليشياتهما على أبواب الإفلاس المادي بعد الإفلاس الخلقي وكان وهم البريكس هو بدوره من الأضغاث فإن مستقبل الإقليم وما حوله يفرض على الطبقة السياسية من غير من وصفت أن يستعيدوا حقيقتهم التي تناسب ما يعرفون به أنفسهم إذا كانوا يريدون أن يكون لهم دور موجب في مستقبل البلاد والأمة:

فالدساترة الحقيقيون لم يكونوا بورقيبيين إلا بالإرغام وبالقبول بشيء من الشرعية التاريخية لحركة التحرير الوطني حتى وإن استحوذ عليها بورقيبة وطبالوه . لكن البورقيبية بما هي قطيعة مع الذات واغتراب حضاري فرضت عليهم لأن فرنسا خارجيا والاتحاد داخليا جعلتهم يخسرون المعركة ضد بدايتهم (الثعالبية) وما تصوروه نهايتهم (اليوسفية).

والقوميون لم يكونوا كلهم معادين لهوية البلد الروحية-لولا المعركة بين السعودية والناصرية ثم الناصرية والبورقيبية-لأن مطلبهم أي الهوية الثقافية لا يمكن أن ينفصل عن بعدها الروحي. ذلك أنهم بدونه يصبحون قائلين بالهوية العرقية وحينها لا شيء يثبت أنهم عرب فضلا عن أن يكونوا عروبيين.

واليسار إذا كان ولاؤه لبعده الاجتماعي فينبغي أن يعلم ي أنه لا يمكن أن يكون في قطيعة مع الشعب ومن وبالتالي فلا بد أن يتناغم مع ثقافته الروحية -كما حدث في أمريكا اللاتينية-ولن يشذ عن هذا التعريف الذاتي لليسار إلا بعض المراهقين من زعماء الجبهة.

والإسلاميون اعتقد أنهم قد تحرروا من مرضين عضالين نأمل أن تكون قد حررتهم منهما :

الثورة: الأول مرض الانقلابات بعدوى القوميين من العسكر كما في السودان والثاني عدوى طالبان التي تنفي معنى الدولة الحديثة فضلا عن الحرية والكرامة. وإذن فهم الآن ميالون للديموقراطية ومقاسمة السلطة مع التيارات الثلاث التي ذكرت قبلهم.

إذا كان ذلك كذلك وينبغي أن نجعله كذلك لإنه شرط نجاح الثورة فإن المستقبل هو لجبهة بين الدساترة والقوميين واليساريين والإسلاميين بالمعنى الذي عرفت هنا لتحرير تونس من الكسور الخمسة التي وصفت ومن العملاء الذين صنعوها واكتفوا بفترينة ليدعوا أنهم تقدميون وحديثون. ذلك هو الشرط الضروري والكافي لتحقيق أهداف الثورة ليس في المحل وحده بل في الإقليم حتى يتوفر شرطي الصلح مع المحيط والعالم :

الأول : الندية التي هي شرط السيادة حماية ورعاية تامتي الاستقلال.

الثاني ما طلبته الثورة : الحرية (الديموقراطية) والكرامية (نموذج التنمية الجامع بين الفاعلية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية).

ولا يمكن تحقيق هذه الشرطين إلا بتحرير تونس والإقليم من المافيات التي حكمتهما إلى حد الآن بالعمالة والخيانة للجغرافيا وثمراتها (ثروات الأمة المادية) وللتاريخ وثمراته (ثروات الأمة المعنوية).

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات