ترددت كثيرا قبل قرار الكتابة في آخر حدث يمر به حزب المرزوقي. وسأسمي هذا اللاحدث بـ"ماراتون الجيش المكسيكي". وهذا الاختيار علته أن الذين سموه استقالة قيادات من حزب المرزوقي نسوا أن يقولوا بأن حزب المرزوقي لا يتألف إلا من هؤلاء الذين هم من جنس جنرالات الجيش المكسيكي.
ولأذكر أولا بأني كنت ولا زلت اعتبر المرزوقي غير صالح لأن يكون رئيسا لتونس منذ اعتراضي على تعيينه الأول وحتى في ترشحه الثاني. وليس ذلك لتشكيك في قيمته كمثقف ولا في أخلاقه فحاشا أن أتهم الرجل من هذين الوجهين. كنت أشك في قدرته على قيادة الثورة الأولى لتحقيق غايتها فضلا عن عدم توفره على قاعدة شعبية تضفي عليه شرعية متينة: الانتقال الديموقراطي.
ولو كنت من ذوي الطموح السياسي لانسقت مع الجميع بل ولانتسبت إلى حزبه أو إلى حزب النهضة-وجلهم خرج منه إما بالسياحة الحزبية أو كون حزيبات مجهرية- وهو ما رفضته وأعلنت عن رفضه منذ اليوم الأول الذي قبلت فيه الترشح مستقلا على قائمة تونس واحد. ولو كنت من ذوي الرغبة في العمل السياسي لما استقلت بعد سنة احتراما للالتزام الخلقي الذي جرت الانتخابات على أساسه. وإذن فهمي أن أتابع الحياة السياسية وما يحدث فيها كشاهد وليس كطرف.
ما أريد عمله الآن هو تحليل قصدي بـ"ماراتون الجيش المكسيكي". فالثمانون الذين استقالوا من حزب المرزوقي هم كل حزبه أو يكادون لأن «شعب النهضة » فهم الدرس. وهم كلهم من نوع "جنرالات الجيش المكسيكي". كانوا يتصورون أن جنرالهم الأكبر فيه "مطموع" ويبدو أنهم فهموا بالتحليل فقدانه كل الرصيد فيئسوا منه ووجدوا جنرالا آخر أو ربما عدة جنرالات في الانتخابات المقبلة إذ سيتوزعون في السباق الماراتوني.
ذلك أن الماراتون ليس مقصورا على حزب الحراك. فهو يشمل كل الركح السياسي في مسرحية "خدمة الوطن" التي تستخدمه. ولا شيء يذهلني فعلا أكثر من هذا الحس الوطني الزائد عن اللزوم. فحوالى 200 حزب وكل حزب فيه أكثر من 10 جنرالات بحيث إن المارتون سيكون بين 2000 جنرال وهم الجيش المكسيكي الذي أتكلم عليه.
ويوجد نوع ثان من الجنرالات بعضهم ممن تجاوز سن التقاعد مثل الشابي المسكين وبعضهم ممن يتصور نفخ الأوداج وكثرة الصياح دليل على الزعامة وبعضهم ممن يتصور التلحيس يمكن أن يعطيهم جيشا ليكونوا جنرالاته كما كان يتوهم المرزوقي عندما كان يتكلم على "شعب النهضة ورثة بلا امالي" وهؤلاء يسمون أنفسهم مستقلين ويسهمون في الماراتون.
وليس هذا الماراتون تسابقا في الخيرات ولا هو حتى تنافس عليها لأن تونس بمفعول هؤلاء الحمقى "صم بكم عمي فهم لا يعقلون" أن تونس ستكون في النهاية "جيفة" أو جثة هامدة في غاية الماراتون الذي كان أول من سنه الرئيس الحالي بما كونه من "كوكتيل مولوتوف"سماه جبهة الانقاذ فكان جبهة الإغراق في ما لا يمكن الإنقاذ منه إلا بمعجزة.
تصورته قد استدرك على نفسه لما مثل دور من أراد الاحتكام إلى التوافق الذي اراده الشعب بعدم مده بالأغلبية ليحكم وحده فيكون قد سعى إلى جبهة انقاذ فعلية لا غش فيها ولا غدر وذلط بالجمع بين ما يمكن أن يكون أساسا للتوازن السياسي في مرحلة الانتقال الهش.
لكنه تخابث فكانت النتجية بأن أصبح أضحوكة اللحظة. فظن أن كل مرة تسلم الجرة. فكرر ما فعله مع رئيس حكومة فاضل ومهادن وعطل البلاد مدة نصف سنة ليعين رئيس الحكومة الحالي. ثم أعادها معه فعطل البلاد نصف سنة أخرى حتى انكسرت جرته وانفجر الكوكتال المولوتوف الذي أفسد به شروط الانتقال الهش.
فهو الذي أغرق الدولة في الشعبوية قبل الانتخابات الأولى وزرع ما يحصد الآن. ويكفي أن ترى من أحاط نفسه بهم حتى تعلم أنه حقا من أقل من تعلموا على بورقيبة إيمانا بغير ما فيها من رذائل لأنه عاجز عما فيها من فضائل. فلا يوجد بورقيبي حقيقي يمكن أن يطمئن للوطديين (او طبالة دولة المافية) والقوميين (الذين يصفقون لمن يحتل أربع عواصم عربية) واليساريين (الذين ما هم إلا الترجمة الإيطالية بفهم فرنسي) وخاصة بعد ما حدث من صدام مع الاتحاد الذي اراد أن يحكم البلاد كما يفعل الآن.
اراد الغدر بالإسلاميين واستضعافهم فارتد عليه غدره والاستضعاف فكان ضحية حبكة دالة على الجهل بما يجري في أعماق الوطن وأذهان الشعب متوهما أن ما كان ممكنا لبورقيبة يمكن أن يكون ممكنا له وهو لا يساوي ضفره فضلا عمن أحاط بهم بورقيبة نفسه من شباب كفء وذي أخلاق (يصعب أن يكون قد كان منهم وإلا لما عمل مع ابن علي) بخلاف من أحاط بهم هو نفسه فجعلها سجينة خياله الجاهل بالتحولات التاريخية العميقة.
والآن بعد أن فتح ماراتون الجيش المكسيكي لو اغتر فترشح فلن يحصل على عشر ما حصل عليه في المرة السابقة لأن حزبه بدأ انفراط عقده قبل حزب المرزوقي إذ إن الكل صار يريد الحصول على موقع في معركة النهب النسقي لتونس التي صارت السياسة أهم مشاريع الربح السريع بخدمة المافيات.
والغريب أن هذه التجارة أول من استعملها بعد الثورة هو السبسي ولها وجهان:
1-السياحة النيابية
2-والسياحة الحزبية.
فهو أول من اشترى نوابا من المجلس التأسيسي. وهو أول من اشترى أحزابا ليؤسس الكوكتال مولوتوف الذي انفجر أخيرا وستتلوه انفجارات كثيرة مثل التي سبقته أي انفجار الحزبين اللذين حكما مع النهضة.
وكان يمكن أن نعتبر ذلك إعادة ترتيب للقوى السياسية أي تكوين أحزاب كبرى من فتات الـ200 حزب. لكن الأمر ليس كذلك. فالماراتون ظرفي وهو مضاعف:
1-تحصيل أصل تجاري في مجلس النواب
2-أو في صدارة الأحزاب.
فمن الثمانين الذين استقالوا "الكل يحسب وحده وسيفضل له" في وهمه.
وقد سمعت أحد الممثلين للفتات الأول من حزب المرزوقي بأنه على يقين أن حزبه سيحكم تونس وقريبا تماما كما يمني نفسه حمة الهمامي ولو بالاستنجاد بمن ذكره أحد القادة اليساريين. قد يكون ذلك ممكنا.
ولكن يصعب أن يكون بالطرق الديموقراطية. فالطفرة السياسية معلوم ما وراءها. لذلك فمن يحسب وحده يفضل له الكثير مثلهم مثل من يطالبون بالبيان الأول ومن أصدروا ما يناظره وإن كان رمزيا. المهم أن الماراتون أصبح شغالا والله يستر تونس من أصحاب « الفون ده كومارس « .
أستطيع أن أقول إن الانتخابات المقبلة إن حصلت -وأرجح أنها مهددة ويغلب على ظني أنها لن تحصل في وقتها وقد تتأجل دون أجل مسمى إلا إذا حسمها عزائيل-ستكون من جنس الانتخابات البلدية. ستنقسم جنرالات الجيش المكسيكي على بقايا التجمع وعلى النهضة وربما على بقايا الجبهة الشعبية.
وعلى هامش هذا "المسرب" سيحدد البعض المسرب الثاني أو ما يسمونه الترشح المستقل دون انتساب لعل في المقابلة ما يعطيه ثمرة عدم رضا الشعب على الأحزاب. لكن الجميع سيكون في الماراتون ليس لخدمة تونس لأن خدمتها الحقيقة تقتضي ألا يصبح كل من يعمل السياسي زعيما :فالماراتون هو بين جنرالات مكسيكية وليس بين قوى سياسية ذات رصيد يطمئن له الشعب.
لا أحد ممن أراهم بين هؤلاء المتسايسين له ما يؤهله من شروط لأداء دور سياسي بناء وخاصة إذا قرأنا دلالة ما يعيبونه على المرزوقي أعني أهم رصيد له دلالة على الإيمان بمطالب الثورة. فالجيل الذي يمكن أن يدعي أنه قد ناضل من أجل قيم الثورة قبل حدوثها انقرض أو تجاوز سن الدور الثوري بل أصبح أميل إلى المحافظة منه إلى الذهنية الثورية والجيل الشاب لم يتجاوز التعبير الاحتجاجي.
توجد هوة أجيال يعسر سدها لأن المسنين "مكبشين" تكبيش الشابي الذي صار يعتبر المتكلمة باسم ابن علي أرجل سياسي طبعا بمعياره الذي يفهما تسرعه في بداية الثورة. والشباب لم ينتظم بعد ليكون قوى سياسية. ومن نراهم من الكهول المشاركين في الماراتون اغلبهم يتنافسون على المنازل ولا يتسابقون في الخيرات. والدليل مضاعف: لم يقدم اي حزب مشروع متناسق لعلاج الاوضىاع يتجاوز تخريف الشابي.
فحصر مشكل تونس في ما تقوله الثورة المضادة أي الحرب على ما يسمونه الإسلام السياسي هو مشروع حرب أهلية وليس مشروع علاج مشاكل تونس حتى لو عالج حاجتهم لتمويل مشاركتهم في السباق. وطبعا فهي ليست حربا أهلية نابعة من قوة المنادين بها لأنهم أعجز من أن يقدروا عليها بل هي ما يجعلهم دمى لدمى: حرب الثورة المضادة خدمة للأعداء الامة.
ولذلك فالماراتون يحركه ممولو الثورة المضادة وذراعا حماتها: فالذراع الإيرانية تستثمر في مليشيات ما يسمى بالممانعة التي هدمت العراق وسوريا واليمن والذراع الأسرائلية تستثمر في مليشيا ما يسمى بالمعتدلين العرب الذين ساهموا في التهديم السابق ويريدون القضاء على ثورة الشباب.
لكن محركهم الأساسي يمر عن طريق المافيات التي تستثمر في تجارة النواب والأحزاب لجعل ما بقي من الدولة غطاء على الاستبداد والفساد النسقيين والذي يهدد ثورة الشباب والانتقال الديموقرطي باسم الديموقراطية والحداثة. فعندما أسمع سخافات من جنس القول إن الاتفاقيات الدولية والدستور فوق القرآن أفهم البقية.
المشكل أن في ذلك اعتراف بالتبعية الحضارية أولا عند إمضاء هذه الاتفاقيات التي تتضمن ما يجعلها عند التطبيق تلغي ما يؤمن به الشعب فتكون دليلا على أن ممضيها لا يمثل إرادته. فإذا جاءك من يدعي أنه يمثل ثورة الشعب ثم يقف نفس الموقف فأنت أمام نفس العقلية: الحرب على قيم الشعب.
وليس المشكل مع هذا الموقف -لأن تعدد ا لمواقف من جوهر الديموقراطية-بل مع توهم إمكانية حكم شعب بمثل هذا الموقف الذي يلغي الشرعية إذا نحن آمنا بالديموقراطية التي تمكن من التعدد تحت مظلة إرادة الشعب وحضارته. فمن يعارض قيم شعبه يمكن أن يحكمه بالاستبداد والفساد ولا يمكن أن يحكمه بالديموقراطية فيكون تسمية الحزب تيارا ديموقراطيا خداعا يذكر للجبهة الشعبية أنها تبرات منه.
فالتنكر أو التقية اليسارية موضة جديدة لعلها استوحت ذلك من التقية الشيعية. وحتى لو فرضنا لجوء المهاجرين من حزب المرزوقي وانضمامهم لمن خرج م شكله السابق فلن يتغير شيئ: لأن الامر يتعلق بزعامات تبحث عن النجاح السريع دون مشروع ثابت الأصول في حضارة الشعب الذي تريد حكمه بنفس العقلية الفوقية وكأنه "انديجان" كلفوا بمهمة تحضيره رغم أنفه.