لست بحاجة لانتظار نتائج التحقيقات للكلام في الجريمة التي قد تكون بداية العد التنازلي لما آل إليه أمر المرض الذي ليس مثل هذه الجرائم عند النظر إليها في أعيانها ليست إلا من أعراضه. وليس هذا أكبرها. وعندما لا أعتبره أكبرها فلست بذلك أهون منه بل هدفي بيان علة أثرة الذي لا ينسب إلى حجمه بل إلى دلالته.
فيمكن أن يكون جنيسا للبوعزيزي التونسي بحيث قد يكون بداية الموجة الثانية من الثورة لأنه يتعلق مباشرة بالجزء من الإقليم الذي تصدى لها فـمثل الثورة المضادة تمويلا وحتى تقتيلا.
فقد يكون الصاعق الذي ينقل تحرر الإنسان العربي والسني خاصة من الاستثناء الذي تعيشه مجتمعاتنا رغم قرنين من السعي للتحرر والتحرير. لكن ما يتميز به الحدث-ما حصل لخاشقجي- متعدد الوجوه:
فهو أولا يبين العلاقة المباشرة بين معركتي التحرر والتحرير لأن الفاعل هنا محدد وهو ناتج عن عدم التحرير الذي يحول دون التحرر. فعدم التحرير بلغ الذروة عندما أصبحت أمريكا وإسرائيل تعينان حكام العرب كما في حالة انقلابي مصر وانقلابي السعودية.
وهو ثانيا مكن من فهم أن ما ظن تحريرا كان منقوصا وكان مشروطا بمنع التحرر بمعنى أن كل الأنظمة السابقة لا تختلف عن النظامين المصري والسعودي كما افتضح أمرهما الحالي.
ولا شك أن ذلك كان دائما كذلك منذ الحرب العالمية الأولى. لكنه لم يصبح علنيا إلا بعد الثورة إذ حتى الانقلابيون السابقون في النصف الثاني من القرن الماضي كانوا من جنسهم. لكنهم كانوا يتظاهرون بالزعامة الوطنية والثورية والتحديثية والوحدوية والاشتراكية في الأقوال بعكس الأفعال حتى تبين لاحقا أنهم كانوا دمى مخابراتية وليسوا من الرجال.
ولأنهم دمى مخابراتية خفية كان عدم الاستغناء عنهم واستبدالهم بغيرهم مشروطا بأن يطبقوا حرفيا ما لأجله وقع اختيارهم حتى رأينا النهاية في العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس وبدأنا نرى الآن صراحة في باقي بلاد العرب من الماء إلى الماء .فرابعة مصر وحلب سوريا وموصل العراق يغطي عليها موظفهم الممسك بالقرار في الغرب وخاصة بالاعلام وتحديد توجهات الرأي العام والتحكم في المؤسسات الدولية.
من يحمي السيسي ومن يحمي بشار ومن “قد” يحمي قاتل خاشقجي ليس من نراهم في الظاهر. والمثال هو بشار. فالكثير يتصور أن من يحميه ويحافظ عليه هو إيران وروسيا. وهذا صحيح إن اكتفينا بالأدوات. لكن محرك الأدوات ليس هما بل هي إسرائيل وأمريكا لأنهما يريدان بقاءنا استثناء خارج التاريخ : تحررا وتحريرا.
بوتين “زورو” روسيا لا يختلف عن “زورو” إيران كلاهما يتوهم أنه الفاعل لكنه مفعول به: هو مرتزق من حيث لا يدري. وستأتي اللحظة التي يقال لهما فيها كفي: عبدتما الطريق إلى ما تمناه كيسنجر: دولة إسرائيل الكبرى. ذلك هو دور بشار والسيسي وقاتل خاشقجي : إنهم دمى في هذه الخطة. وتوقعي أن ما يجري حاليا من تهديد ووعيد لقاتل خاشقجي زوبعة حتى لو أتوا ببديل لذر الرماد.
فما زالت أمريكا وإسرائيل بحاجة لإنضاج الأكلة: هم يحتاجون إلى من يمول الثورة المضادة ومن يمول مخططهم لجعل الإقليم العربي من الماء إلى الماء ما يتمنون أن يكون مستعمرة إسرائيلية. إسرائيل الكبرى من النهر إلى النهر لم تعد تكفيهم هم يريدونها من البحر إلى البحر. يريدون الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط كلها وبأيد وتمويل عربيين وحلف مع كل من يحيط بالعرب فيه (ومعهم الأتراك والاكراد والأمازيغ أي الشعوب التي بنت دولة الإسلام وحمتها ).
ولما كنت لا أريد الكلام في الأعراض كلاما يغفل العلل فإني أصوغ المشكل بكامل الصراحة: اكتشفت أمريكا وإسرائيل أن خطة الامبراطوريات الأوروبية التي كانت مسيطرة في الحرب العالمية الأولى فشلت رغم التفتيت الذي حققته ورغم زرع إسرائيل واسقاط الخلافة فأرادا تطبيق خطة الولايات المتحدة في الهنود الحمر. لكن الخطة هنا أكثر تعقيدا لعلتين:
1-لأن أهل الأقليم رغم تخلفهم ليست المسافة الحضارية بينهم وبين الغرب مثل ما كانت عليه لدى الهنود الحمر
2-لأن الاستفراد بالقوة في العالم لم يبق حصريا لدى الغرب بحيث إن التنافس على الاقليم خاصة ودار الإسلام عامة صار عالميا وليس غربيا فحسب.
ولهذه العلة فالولايات المتحدة واسرائيل حريصان على أن جعل المحيط بالأقليم العربي من الشعوب الأخرى وخاصة من الفرس والهنود والأفارقة معاديا للعرب والإسلام ونسبة كل مآسيهم إليهم كما في خرافة تجارة العبيد التي يوهمون الأفارقة أنها إسلامية في حين أنها لم تبدأ إلا بعد استئساد الغرب.
فتجارة العبيد ونقل السود إلى أمريكا حديثة وهي بعد سقوط الاندلس وانحصار دور الدول الإسلامية في افريقيا وفي العالم. ونفس الأمر يقال للهنود. أما الفرس فليست إسرائيل ولا أمريكا بحاجة لتشجيعهم على معاداة العرب لأن من جاء ساعد مغول الشرق في الماضي هو هو ويساعد مغول الغرب في الحاضر.
والهدف هو الحد من العنصر الثاني أعني التنافس العالمي على الأقليم ودار الإسلام حتى يتحقق مخطط الاستفراد به وابتلاعه كما حصل لما يسمى الآن الولايات المتحدة الأمريكية والتي يسمونها في مسيحيتهم الصهيونية الأرض الموعودة الجديدة.وهم يريدون استرداد ما يسمونه الأرض الموعودة القديمة.
أما العامل الأول أعني المسافة الحضارية التي لا تسمع بالتصفية السريعة للعرب فعلاجها في استراتيجيتهما هو التهديم الذاتي لمعالم الحضارة وشروط التنمية التي تقلل من هذه المسافة وذلك باستعمال النخب العميلة التي تفسد الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود لإغراقنا في حرب أهلية دائمة سموها الفوضى الخلاقة.
ما حصل لخاشقجي على مرارته وألمه وبشاعته قد يقلب الأمر على أعداء الأمة وعملائها من بين نخبنا. فيكون خاشقجي بشهادته قد مثل فاصلة في تاريخ الاقيلم. ذلك أني اعتقد أنه سيكون بوعزيزي الثاني وشهادته فجر الموجة الثانية من الثورة في عقر دار الثورة المضادة وسجعل شعوب الخليج تعزم على التحرير شرط التحرر لأن ما كانت ترشى به الشعوب لم يبق منه شيء إذ صار رشوة لحماة الحكام على حساب قوتهم وكرامتهم.
ولهذه العلة تمنيت نجاح ترومب -لأنه أعلن عن استراتيجيته خلال الحملة-وفرحت بنجاحه لأن ما كان يحصل خفية صارت علنيا بفضل صراحته التي يظنها الكثير سذاجة. وهي في الحقيقة علامة على التأكد من أن عبيد أمريكا وإسرائيل وعبيد روسيا وإيران لم يعد لهم مفر من الاعتراف بأنهم دمى لا غير.
والآن أريد أن اختم هذه المحاولة بالكلام على تركيا التي اختيرت أرضها مسرحا للحادثة. فقد شاءت الأقدار أن تقع الجريمة في بلادها وإن على أرض سعودية بمقتضى التقاليد الدبلوماسية.و لا أعتقد أن المجرمين مهما قلنا في غباوتهم يمكن أن يكونوا جاهلين بأن الأتراك ليسوا أغبياء أو من اليسير اللعب معهم واستغفالهم. لذلك فليسوا هم الذين اختاروا تركيا بل كان من يريد أزمة دبلوماسية فاصلة بينهم وبينها.
ولا أعتقد كذلك أنهم كانوا ينوون قتل خاشقجي بل كانوا يريدون خطفه. وأرجح “الاوفادوز” (الجرعة الزائدة) في التخدير هي التي ورطتهم في قتله فاضطروا إلى محاولة تهريبه فتاتا. ومعنى ذلك أن الله قد أراد أن يكون خاشقجي ليس شهيدا فحسب بل وشهيدا وشاهدا حتى بعد وفاته على منعرج تاريخي في مصير الإقليم إذا وقفت شعوب الخليج وقفة الأحرار.
اختيار تركيا كان مقصودا والهدف أزمة دبلوماسية بعد الخطف الذي كان في الخطة وليس القتل. فالصديق الوحيد للعرب في الإقليم كان ينبغي استبعادة لتحقيق الخطة التي تجعلهم هنود اللحظة الحمر.
فتركيا هي الصديق الوحيد للعرب. أعلم أنها لاتفعل ذلك حبا في العرب بل لأنها هي بدورها مهددة مثلهم بسبب تاريخ علاقتها بالغرب.
فلو بقيت تركيا كمالية لما هددوها. تركيا التي بدأت تستعيد هويتها وطموحها ودورها التاريخي هي المستهدفة لأنها بصلحها مع الأكراد والعرب والأمازيغ -وقد سعت حقا لهذه الغايات فلم يفهم سعيها بل اتهمت بالامبريالية من النخب المعادية للإسلام واستئناف دوره-يمكن أن تكون العائق الأساسي لخطة” الولايات المتحدة الاسرائيلية” في الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط فيصبح كله محتلا مثل الضفة الشمالية.
الخطة هي ولايات متحدة إسرائلية في الأرض الموعودة القديمة التي يراد استردادها بتصفية العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ تصفية يستعملون بعضهم ضد بعضهم وولايات متحدة أمريكية في الأرض الموعودة الحديثة التي أنشئت بتصفية الهنود الحمر ليست من أوهامي بل هي خطة مصرح بها وشرع فيها خطة مفهوم الشرق الأوسط الكبير.
طبعا لست ساذجا فأصدق أن شعوب الخليج ستثور مباشرة-فعطالة التاريخ ليست يسيرة التغيير- وأن أمريكا حتى لو فرضناها أزاحت الأمير الأحمق ستتخلى عن خطتها بل هي ستأتي ببديل يتظاهر باصلاح أخطائه لكنه لن يكون الحل إلا لأزمة سرعان ما سيطويها الإعلام الصهيوني في العالم وسيتواصل الحبل على الجرار.
وسيعود الكلام الممجوج للحرب على تركيا وعلى الخلافة أي على الحل الوحيد الممكن لإخراج الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط مما يخطط لها استكمالا لما شرعوا فيه بعد الحرب العالمية الأولى وتبين لهم أنه فشل لأن الاستئناف بدأ وخاصة منذ أن وقعت الثورة وشرعت تركيا في استرداد ذاتها.
وعندما أسمع سخفاء الإعلام العربي يعلقون بثقل دم لم أر له مثيلا على مسألة القس أعلم أنهم من أكبر عملاء إسرائيل وأمريكا. وهم من اغبى خلق الله. فهم يتصورون قيادات تركيا حمقى مثلهم فلا يتعاملون سياسيا من دون اعتبار توازن القوى ولا يميزوا بين احوال النفس ومصالح الدول. لكأن القضية قضية مبارزة بين رجلين.
لكن اردوغان زعيم وله القدرة على اليميز بين مصلحة تركيا والمبارزة مع ترومب. من يتصوره غرا يقبل بالعناد الصبياني للدخول في كسر العظام مع أمريكا حاليا من دون المشروع الذي من دونه لا يوجد أحد قادر على الدخول في مثل هذا الصراع بما في ذلك الصين يجهل طينة الرجل وذكاءه وبعد نظره.
ومن لم يقرأ ابن خلدون ورأيه في نظرية المطاولة التي يغلب بها الأضعف الأقوى لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الاستراتيجيين الكبار الذين من جنس أردوغان. لم أقارنه بمعاوية عبثا. هو معاوية الثاني:
فالأول هادن بيزنطة حتى حرر الإقليم من الشام إلى الاندلس.
وهذا ما ينبغي تحقيقه حاليا: العالم الإسلامي مستعمرات أمريكية ولا بد من تحريره من مندناو إلى المغرب.