ربما لاحظ الكثير ان جلوس رئيس المجلس الأعلى للقضاء بين يدي رئيس الجمهورية يوم امس 4 اكتوبر في قصر قرطاج لم يكن كغيره من اللقاءات التي جمعتهما.
ولا ادري ان كان قيس سعيد يرغب من وراء إخراج ذلك "الموقف" ان يؤكد للشعب (المجسد في شخصه) انه يدير كل شيء (خصوصا بعد المظاهرة المليونية! ) وان ما بقي من سلطات الدولة(وهو القضاء) ليس بعيدا عن مرمى صواريخه؟!
ام انه كان يهدف إلى ترسيخ صورة القضاء "المستضعف"،مظنة الرشوة والفساد (الا قلة شريفة!) وذلك استكمالا لتصوراته عن السرطان الذي ينخر جسم الدولة؟!
ام انه كان يرمي مع ذلك إلى ترويع الجميع وخصوصا القضاة حين يرفع شعار تطهير البلاد وتطهير القضاء؟! باعتبار ان ذلك هو اقصر الطرق وانجعها لاخضاع القضاء و استعماله!
ومهما كانت الأفكار التي جالت بخاطره، فإن جميع تلك" النوايا" ليست في آخر المطاف من جملة ما يفيده او ينفعه او يصلح من شان القضاء؟!
كما يبدو أن الخطاب المباشر على منوال ذلك اللقاء (في مواجهة أشخاص لا ينطقون ولا يناقشون! ) لا يمكن ان يحمله الملاحظ الا على محمل التقريع او التأديب او حتى الازدراء وهو في كل الأحوال خطاب لا يليق ان يوجه لاحد مكونات سلطة الدولة(السلطة القضائية) ، على افتراض وجودها او ضرورة احترامها.!
وحتى إذا تجاوزنا ذلك، فإن اصل الخطاب المتعلق بتطهير القضاء (طبق مضمونه المرتبط بالعدالة الانتقالية) هو من صميم الصلاحيات المنوطة بهيئات مستقلة وبسعي من السلطة التنفيذية التي يجب أن تستند في ذلك إلى تشاريع وضمانات،وهو ما يعني أن المجالس العليا للقضاء و الهيئات القضائية والهياكل الممثلة للقضاة ليست معنية مباشرة بتنفيذ إجراءات ما يعرف بالتطهير (او الإصلاح المؤسسي)، الذي كان من اختصاص هيئة الحقيقة والكرامة(لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات) طبق القانون الأساسي المتعلق بارساء العدالة الانتقالية وتنظيمها الصادر في24 ديسمبر 2013.
وللعلم ،فإن تلك اللجنة كان لها طبق القانون ان تصدر توصيات للجهات المختصة بالإعفاء او الاقالة او الإحالة على التقاعد الوجوبي في حق كل شخص يشغل إحدى الوظائف العليا بالدولة بما في ذلك الوظائف القضائية اذا ثبتت مسؤوليته عن جملة من الانتهاكات المحددة (الفصل 43من قانون العدالة الانتقالية).
وعلى ذلك لم يكن بيد القضاة - حتى قبل ارساء العدالة الانتقالية وفي الأيام الاولى التي اعقبت الثورة -الا النزول إلى الشوارع لمطالبة السلطة بإصلاح القضاء (في اشخاصه ومؤسساته!). ولم ينقطع "حراك القضاء" على مختلف مشاربه وفي كل المحطات عن تأكيد المطالبة بإرساء سلطة قضائية مستقلة ونزيهة تحظى بثقة الناس واحترام بقية السلطات.
ولذلك لم تكن بيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء "مفاتيح الاصلاح" ولا "سر التطهير" حتى يصرخ في وجهه رئيس الدولة.
كما لم يكن له (وهو الماثل امام صاحب جميع السلطات.! ) ان يذكر بان ما نعيشه من غياب السلطات العامة الثلاث وتركيزها في يد واحدة والاخلال بمبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها والتدخل في تنظيم العدالة بمراسيم رئاسية و وضع القضاة بالإقامة الجبرية ومنعهم من السفر و ترويعهم في كل مناسبة لم يترك من تلك السلطة شيئا الا الحديث في أركان المحاكم.!