إنّ ضرْب مؤسَّسة علميّة جذورها مُمتدّة إلى عُمْق التّاريخ الإنساني، كما هو الشّأن بالنّسبة للجامعة الزّيتونيّة المَعْمُورة، من خلال قذف بعض رموزها بالشّناعة التّكفيريّة، أمرٌ غير مُتاح لأوّل قارئ مُتَسَرّع لبَعض النّصوص غير المُحقَّقَة ولا المُوَثَّقَة علميًّا. ووصْم العلاّمة الطّاهر ابن عاشور بالتّهمة التّكْفيريّة ليس بالأمر الهيّن حتّى نقذف بهذه الشّناعة في منعَطَف بعض صفحات سرديّة غير مُثَّقَة علميًّا.
تمامًا هو الشّأن بالنّسبة للشّيخ الفاضل عبد العزيز الثّعالبي –صاحب كتاب روح التّحرّر في القرآن، فهل من مُذكِّر؟!-. أنّى لهذا المُناضل الوطنيّ المؤسّس للحزب الدّستوري الحرّ المُشْبع بقيم الحداثة والتّمدّن أن يكون تكْفيريّا. ثمّ هل اطّلع المروّج لهذا التّشنيع التّكفيريّ على شراسة ردّة فعل أعلام الزّيتونة على دعوة محمّد ابن عبد الوهّاب علماء تونس إلى الانضمام للفِتْنَة الوهّابيّة.
ولنا فيما انتهى إلينا من آثار علماء جامع الزّيتونة المعْمور خير دليل على براءة منارة علمنا من شبهة التّكفير، فحسبنا دليلاً عمّا نقول رسالة الردّ على الوهّابيّة للشّيخ أبي حفْص عمر المحْجوب وكتاب المِنَح الإلهيَّة في طمْس الضَّلالة الوهّابيّة للشّيخ القاضي إسماعيل التّميمي.
وحتّى لا يكون قولنا مُبطَّنًا، فإنّنا نُعْلِنُها بكلّ وضوح، لئن كانت الجامعة الأزهريّة شريفة بعُلَمائها، فإنّ الجامعة الزّيتونيّة لا تقلّ عنها شرفًا بما خلّف لنا رموزها الميامين من آثار. كما أنّنا نقول بصوت عال ومسموع: لن نُضحّي بمنارتنا العلْميّة هذه لمُجرّد النّكاية في "إخواننا" –اللّذين لم يتوانوْا عن جرّ ديننا الحنيف ومؤسّساته العلميّة الشّامخة إلى الحلبة السّياسيّة القذرة خدمة لأطماعهم في الجاه والسُّلطة- أو من باب مُؤازرة المُرْتَزَقة النّدائيّين الذين خبرْنا أخلاقهم بالأمْس القريب –والبعيد أيْضًا- قبل اليوم.
فإن كان طريق وزارة الشّؤون الثّقافيّة بالنّسبة للمُتسلّقين من بين الجامعيّين يمرّ عبْر "تشْليك" جامعتنا الزّيتونيّة المَعْمورَة، إرْضاءًا لما اعتقدوا، واهمين، أنّه تقليد بورقيبيّ، فإنّنا لن ندّخر جهدًا في نُصْرة أعلام هذه المنارة العلميّة.
وإذا كان ذلك كذلك، فنقول: إنّ ما ذهب إليه الأستاذ شكري المبْخوت في كتابه "تاريخ التّكْفير في تونس"، فضلاً عن عدم ايفاء مضمون الكتاب بالوعود المُتَوَقّعة من عنوانه، من ضمٍّ للعلاّمة الشّيخ الطّاهر بن عاشور -صاحب موْسوعة التّحْرير والتّنوير الحديثة والحدَثيّة- إلى زمرة التّكفيريّين -بما يحمله هذا المُصطلح من شحنة تهجّمّيّة، وبخاصّة في الزّمن الذي نحن فيه-، من حيث اتّصال المنزع التّكفيريّ بفتْنة السّلفيّة المُسْتحْدَثَة وامتداداتها الجهاديّة الدَّمَوِيّة، ما يسْتنهضُنا لمزيد تقليب النّصوص والتّدقيق في عبارة علاّمتنا؛ إذ أنّ ما تسنّى لنا الوقوف عليه من متون صاحب التّحرير والتّنوير أوْحى لنا بروح تحرّريّة تتنافى وتهْمة التّكْفير التي ألحقها به الأستاذ المَبْخوت.
من ذلك مثلاً أنّ مصطلح "التّكفير" لم يردْ في موسوعته المذكورة إلاّ مقترنًا بمعاني السّلبيّة والنّقد والازدراء (مرادفات كلمة "التّكفير" في موسوعة ابن عاشور =البِدْعَة (ج1/ص90)، انْتِقَاض الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ (ج2/ ص95)، الخَطَرٌ عَلَى الدِّينِ (ج2/ ص213)....). كما أنّ الرّوح التحرّريّة وتغليب المنهج العقلي اللّذان طَبَعا فكر العلاّمة ابن عاشور، سواء في هذا الأثر النّفيس أو في غيره من مؤلّفات هذا العلَم النّحْرير، ككتابه التّنويريّ والتّحديثي لروح الإسلام التّضامنيّة والمتقاطعة مع أسمى قيَم الإنسانيّة، والموْسوم "أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام"، أو مؤلّفه التّجديديّ في أصول الفقه، والأقرب إلى الفقه المقاصديّ للإمام الشّاطبي من كلّ المؤلّفات الموضوعة على المذهب المالكي الأخرى، أعني "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"، أو كتابه المَرْجع في إصلاح نظام التّربية والتّعْليم في البلاد الإسْلاميّة الذي عنْونَه "أليس الصُّبْح بقَرِيب؟"، أو تاج آثاره الذي بسط فيه منهجه العقلانيّ في قراءته للآثار الدّينيّة من قرآن وسنّة، والذي آثر –تبعًا لرؤاه العقلانيّة- أن يعنْونه: "تحقيقات وأنْظار في القرآن والسنّة". أبمثل هذه الرّوح التّحرّريّة والتّنْويريّة يمكن للعلاّمة ابن عاشور أن ينْخرط في غياهب الظّلاميّة التّكفيريّة؟! أَلاَ يجْدُر بالباحث أن يتريّث، ويتمعّن في مُدوَّنة الرّجل برمّتها قبل إطلاق حكمًا قد يُعَدّ، وبخاصّة في العَصْر الذي نحن فيه من أقسى الأحكام على منظومة فكريّة ما، أي أن تُلصَق بها التّهْمة التّكفيريّة؟!
فحريّ بمثقّفينا ومخْتصّينا الأكاديمِيّين أن يتحرّكوا، دراسة وتقليبًا للنّصوص، ذودًا عن روح علاّمتنا التّحرّريّة والتّحْديثيّة، طاَلما أنّ القائم الأوّل على المؤسّسات الدّينيّة في ربوعنا –ومن أكثرها أصالة: الجامعة الزّيتونيّة التي يُعدّ العلاّمة ابن عاشور من أبرز أعلامها- منكبّ على مغازلة العَدُوّ الصّهيونيّ… في عُقْر دارِهِ.
فالمعْذِرَة من زَميلي وصديقي الأستاذ شكري المبخوت، إنّ التّكفير لا تاريخ له في ربوعنا، وبخاصّة في جامعة الزّيتونة؛ وأحسن دليل على ذلك هو، كما سبق ذكره، الردّ المُفْحِم الذي خصّ به العالم الزّيتوني عمر المحْجوب دعْوة مؤسّس الوهّابيّة التّكفيريّة علمائنا الأفاضل لنُصْرَة بدعته الظّلاميّة، ما حدا بعلماء جامع الزّيتونة المَعْمور على نبْذ هذه الضّلالة بإجماع لم يرْق له الخلاف البتّة البتّة. فكما أنّه ليس للمنزع التّكفيريّ أيّ ماض في ربوعنا، فلا مُسْتَقْبَل له.