جوقة "يا سيّد الأسياد" للمدائح والأذكار قد ولّى عهدها وانقضى

Photo

أثارت المقالة التي نشرتها باللّغة الفرنسيّة على أعمدة الصّحيفة الإلكترونيّة "كابتاليس" تحت عنوان "غرّة جوان 1955 تاريخ عيد النّصر، ولكن نصر مَن على جهة التّدقيق؟" ضجّة في صفوف مَن أطلقوا على أنفسهم صفة "البورقبيّين"، وقد اتّضح فيما بعد، أي بمناسبة إقالة وزير الدّاخليّة السّابق أنور ابراهم، أنّ عنصرهم المكوّن الأبرز إنّما هم مدوّنو النّقابات الأمنيّة الفايسبوكيّون، ما ألحق بشخصي أبشع التّهم من "مثقّف" بين ظفرين –وقد صدر هذا التّشهير ممّن قد خلته لعقود طويلة صديقًا، بل ونصيرا، إلى شبهة "الدّاعشي"، مرورًا بتهمة المتعصّب للمروزوقي والمرتزق من لجنة بن سدرين وعميل رابطات حماية الثّورة... إلخ... إلخ.

وما حزّ في نفسي حقًّا أنّني لمست بعض التّواطئ على رعاية حملة القذف العلني هذه من مدير الصّحيفة وبخاصّة من بعض أفراد عائلته المنتمين للفريق المذكور. والخليق بالملاحظ، من جهة أخرى، أنّ "الصّديق" سالف الذّكر قد بادر إلى تسجيلي فايسبوكيًّا ضمن هذا الفريق، أعني "البرقيبيّون".

أمّا ما أثار حفيظة كلّ هؤلاء، وهو الأمر الأهمّ، إنّما هو ما اعتبروه تشويهًا للمسيرة النّضاليّة لمجاهدهم الأكبر، والحقيقة أنّ كلّ التّونسيّين الذين تجاوزا الستّين سنة من عمرهم يعلمون مدى تندّر، بل وفي بعض الحالات تهكّم، المواطن العادي في نهاية ستّينيّات وبداية سبعينيّات القرن الماضي على احتجاج بورقيبة الشّخصي، بمناسبة إلقائه لخطاب رسميّ موثّق، على "الشّعب الكريم" على ذكره تحت مسمّى "سي الحبيب" أو حتّى "الحبيب"، مطالبًا التّونسيّين -عامّة وخاصّة-، الإشارة إلى شخصه في المستأنف من الأيّام تحت اسم "المجاهد الأكبر". مثيرًا بالمناسبة حفيظة، بل وسخط في بعض الحالات، قيادات التيّار الإسلامي، الذي بدأ يتشكّل آنذاك في هذا البلد الأمين، لِمَا في تلك الدّعوة من تجرّؤ على "السّلف الصّالح"، وشبهة "الشّرك" في حقّهم.

ولمّا كان من المعلوم، فضلاً عمّا ذكرنا، أنّ مذهب الصّفاتيّة من بين أنصار النّقل وأعداء العقل -بداية بسفيان الثّوري وابن حنبل، وانتهاءًا بابن قيّم الجوزيّة وجلال الدّين السّيوطي (باعتبار أنّ آثار السيّد قطب لا تمتّ بصلة لا إلى جليل الكلام ولا حتّى دقيقه)، مرورًا بغزاليّ "التّهافت" و"المنقذ"، من جهة، وابن تيميّة، من جهة أخرى- أنّ الصّفات هي عين ذاته –تعالى سبحانه عن قولهم علوّا كبيرا-، فالشّرك البورقيبيّ في هذه الحالة قد يمتدّ إلى المقام الإلهيّ، وهو –وفق مقدّماتهم- الحريّ الأوحد بصفة "الأكبر".

والحقيقة أنّ مفاد قولنا لا يمتّ بصلة إلى النّيل من هذه المقامات المقدّسة، وإنّا غايتنا اقتصرت على الايماء لأمرين إثنين لا ثالث لهما.

- أوّلهما: أنّ إخراج العودة البطوليّة بتلك الطّريقة الهوليووديّة، التي تذكّرنا بمراسم النّصر التي كانت الإمبراطوريّة الرّومانيّة تخصّ بها قاداتها العسكريّين في صورة عودتهم إلى أرض الوطن مظفّرين، كان بتصميم من سلط الحماية الفرنسيّة، ممثّلة في هذه المناسبة برئيس حكومتها، بيار منداس فرانس، الذي كانت تربطه بالحبيب بورقيبة علاقات صادقة جدّ وطيدة، بل ومصاهرة أيضًا حسب بعض الوثائق والشّهادات.

وهو الأمر الذي تشهد له مراسلة متأخّرة (سنة 1965) لرئيس الجمهوريّة التّونسيّة إلى ريش الحكومة الفرنسيّة الأسبق، حيث يذكّر بورقيبة منداس فرانس بصداقتهما الضّاربة في القدم، قائلا: "إنّ الصدّاقة العريقة القائمة بيننا والتي سمحت لي بتثمين خصال شجاعتكم وتبصّركم تسمح لي بالاستنجاد بكم...".

« La vieille amitié qui nous unit et qui m’a permis d’apprécier vos qualités de courage et de lucidité m’autorise aujourd’hui à faire appel è vous »

- وثانيهما: أنّ الحشد الجماهيري الذي لم يكن ليدرك ذلك المدى، حسب بعض الرّوايات 500 ألف تونسي قد تجنّدوا لإنجاح مشهد العودة البطوليّة الموثّق سينمائيًّا صورة وصوتًا، مع وجود مشاهد ملتقطة من علوّ لا يمكن إدراكه إلاّ بطائرات هليكوبتر… أمّا عن تأمين هذه التّظاهرة الضّخمة فقد أوكل أساسًا للجدرمة الفرنسيّة، بما يعزّز الفكرة القائلة بأنّ دولة الحماية الفرنسيّة، ممثّلة في شخص منداس فرانس كانت ترمي من خلال استعراض القوّة هذا إلى فرض صورة بورقيبة الزّعيم الأوحد للحركة الوطنيّة التّونسيّة على حساب كلّ القيادات التّونسيّة الأخرى، وعلى رأسها الزّعيم صالح بن يوسف.

وقد كشفت لنا العديد من الوثائق التّاريخيّة على تحفّظات المستعمر الفرنسي على شخص بن يوسف باعتبار مواقفه، التي وُصفت بالمتصلّبة، من مسار المفاوضات الفرنسيّة التّونسيّة بخصوص الاستقلال الدّاخلي، ونزعته العروبيّة –مجسّدة في علاقته الحميميّة بجمال عبد النّاصر- التي جعلته من أبرز المعارضين لكلّ أشكال وجود الدّولة الفرنسيّة في الجزائر الشّقيقة.

ما حدا بمنداس فرانس إلى التّعبير صراحة على مخاوفه من كسب بن يوسف معركة النّفوذ السيّاسيّ في تونس على حساب حليفه بورقيبة، معبّرًا لصديق آخر له، وهو بالمناسبة أحد أهمّ ممثّلي الذّراع الإعلاميّ للكيان الصّهيوني في فرنسا، جان دانيال –صاحب مجلّة لو نوفو أبسرفاتور-، عن مشاعر قلقه في هذا الشّأن قائلاً: "هل أنّك متأكّد بأنّ –الحبيب بورقيبة- سيتمكّن من الصّمود أمامه؟ وأنّ صالح بن يوسف هذا لن ينجح في افتكاكه منّا؟".

« Etes-vous bien sûr qu’il réussira à tenir ? Ce Salah Ben Youssef, il ne va pas nous le prendre ? »

هذا ما أثبتته لنا الشّهادات والوثائق التّاريخيّة، وهي محفّزة لنا لإعادة النّظر في الرّواية الرّسميّة التي سوّقت لها أجهزة الحزب الحاكم طيلة عقود، ورموزها معروفون لدي الخاصّة والعامّة، كما وأنّ الخدمات الجليلة التي قدّمتها مراكز "البحث" المتخصّصة، وعلى رأسها "معهد الحركة الوطنيّة"، للخطاب السّائد في هذا الصّدد أكثر من أن تحصى، وتواطئ المؤرّخين الرّسميّين، والأكادميّين منهم أيضًا، تفوق كلّ عدّ… فشهّروا بالفقير إلى ربّه ما طاب لكم، إنّ غدًا، المنذر بكشف كلّ هذه الحقائق وأكثر منها أيضًا، لناظره –الرّاجي من ربّه ساعة الخلاص- لقريب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات