لقد قرأت باهتمام شديد ما تفضّل به الدّكتور مصدّق الجليدي من تحليل لقول أبي يعرب المرزوقي، وقد نشر مقالته تحت عنوان: "لماذا يبدو أبو يعرب المرزوقي الخلدوني والعقلاني جدًّا "متطرّفًا سنّيًّا"؟ أو كيف جمع أبو يعرب بين ابن خلدون العقلانيّ نظريًّا وابن تيميّة السّلف عمليًّا؟"، موهمًا أنّ قوله هذا مواصلة لموضوع مقالتي السّابقة: "محمدّ الحبيب المرزوقي: الارتقاء إلى الهاوية: من أنوار الفلسفة الإسلاميّة إلى غياهب السّلفيّة الوهّابيّة"، وخلصت إلى كوننا تناولنا بالدّرس مبحثين مختلفين، ولربّما متناقضين.
يقول الدّكتور الجليدي إنّه على دراية تامّة بمؤلّفات الدّكتور المرزوقي، فأتشرّف بإعلامه أنّني أتقاسم مع أستاذه نفس الاختصاص منذ ثمانينات القرن الماضي، وأنّني أدرّس هذا الاختصاص في الجامعة التّونسيّة منذ سنة 1990، بحيث أنّني مواكب لمنشورات الدّكتور المرزوقي بنفس درجة مواكبته لها، ولكنّ المجال لا يتّسع للدّخول في تفاصيل قراءة -أو فلنقل "تبريرات"- الدّكتور الجليدي لتبنّي المرزوقي لثنائيّة العرب/الفرس، أو آل البيت من أجداد آل سعود –على حدّ زعمهم والأرجح أن يكونوا من نسل بني قينقاع-.
ولكنّ الأوكد بالنّسبة لنا إنّما هو الوقوف على ما تفضّل به الدّكتور مصدّق من كون الأستاذ المرزوقي متبنّ للمنزع العقلاني الفلسفي منذ بداياته، وأنّه لم يحد عنه قيد أنملة، اللّهمّ لاعتبارات ديدكتيكيّة إجرائيّة، وأنّ الأمر غير متاح الفهم إلاّ لِمَن تبحّر في علم الدّكتور المرزوقي، أمّا بالنّسبة لعامّة القوم، والفقير لربّه من بينهم وفق ما تسنّى لي فهمه من عبارة الكاتب، فإنّ المسألة تضلّ رهينة قصور في نظر العلاّمة المرزوقي، لا سمح الله.
وقد استدلّ الكاتب على صحّة قوله بما ما اختزله عن الدّكتور المرزوقي في تحليله لفلسفة التّاريخ عند ابن خلدون، لكنّ صاحب المقدّمة لم يُعْرف لا في كلامه ولا في فقهه بنصرته للعقل، بل على العكس من ذلك تمامًا: إنّ ابن خلدون المتكلّم والفقيه لم يكن يتميّز في شيء عن مقلّدي عصره المغلّبين للنّقل على العقل من الفقهاء المالكيّين والمتأخّرين من المتكلّمين الأشاعرة الرّافعين لشعار الـ"بلا كيف".
وإن كنّا نروم حقًّا تقييم موقف الدّكتور المرزوقي من العقلانيّة الفلسفيّة العربيّة، فعلينا أن نعود إلى كتابه –وهو في الأصل بحث لنيل شهادة البحوث المعمَّقة-: "مفهوم السّببيّة عند الغزالي" الذي عبّر فيه عن نصرته لحجّة الإسلام ومكفّر الفلاسفة (انظر كتابيه "تهافت الفلاسفة" و"المنقذ من الضّلال" أبي حامد الغزالي)، وتفوّق منهجه الأشعري عن منهج فلاسفة الإسلام العقلاني. أمّا التّساؤل عن حيثيّات، أو فلْنقل تعلّات، هذه الأفضليّة الممنوحة للوقف الاّزم في الآية 7 من سورة آل عمران في قوله –عزّ من قائل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ﴾ والمشرّعة لشعار الـ"البلا كيف" الأشعري، وغير خفيّ على أحد أنّ أبا حامد كان من أئمّة الأشاعرة المرموقين؟ فأمر خارج عن حدود هذه العُجالة، وإنّما الأهمّ ألاّ نلصق صفة "الفيلسوف" بالدّكتور المرزوقي، وهو، بحكم مناصرته لعدوّهم الأوّل، منهم براء.
ونقول، فضلاً عمّا أسلفنا، إنّ منزع "الفيلسوف المرزوقي" السّلفي النّقلي، الذي سيستحيل في مرحلة ثانية إلى تبنّ كلّيّ للمذهب الوهّابي، بفعل المصالح المُرْسلَة –وهي ليست بالمناسبة سياسيّة ولا هي حتّى استراتيجيّة-، قد بدأ يلوح منذ تلك الفترة المُبكّرَة في مؤلّفات الأستاذ أبي يعرب، علمًا بأنّ تقاربه التّنظيمي من الحركة الإخوانيّة يعود إلى نهاية سبعينات القرن الماضي، وقد كانت له تجربة مع الأستاذ محمّد مزالي في منتصف ثمانينات القرن الماضي في هذا الإطار.
ومحصّلة قولي إنّه انطلاقا من الأرضيّة الفلسفيّة ليس ثمّة أيّة سبيل مؤدّية إلى مذهب –أكاد أن أقول: "عقيدة"- السّلفيّة الحنبليّة، فضلا عن أن تكون موصلة إلى السّلفيّة الوهابيّة. فالتّسليم بهذا الإمكان، حتّى ولئن كان على جهة العبقريّة الفذّة للعلاّمة المرزوقي، خلف لا يمكن البتّة البتّة. فإن شئتم أن تسحبوا عليه صفة آية الله، فلكم ذلك، أمّا صفة الفيلسوف، فلها استحقاقات أخر. "الكاتب" أسعد جمعة.