ما انفكّت دولة ما بعد الاسْتقْلال تردّد على مسامعنا أنّ تونس بلد فقير من حيث ثرواته الطّبيعيّة، وأنّه لا يكاد يتميّز عن سائر البلدان الفقيرة الأخرى إلاّ بثروته البشريّة، وعلى وجه الخصوص بـ "المادّة الشّخمة"، كما كان يحلو "للمجاهد الأكْبر" أن يردّده على مسامعنا، ونحن أحداث لا نكاد نفقه في مثل هذه الأمور شيئا يُعتدّ به.
وقد انتهج القائمون على الدّولة التّونسيّة نفس النّهج، مردّدين كلمات "سيّد الأسْياد" المأثورة "تونس بلد فقير ورصيده الأوحد: ثروته البشريّة". واليوم، وقد تجاوزنا مرحلة الطّفولة، وحتّى الكهولة، قد اكتسبنا من العلم والحكمة النّزر الذي يؤهّلنا إلى الإصداع في وجه مَن يجترّ هذه العبارة: كلاّ تونس ليست بالدّولة الفقيرة كما تدّعون، كما أنّ الله لم يحبها بثروتها البشريّة فقط، بل أنّ مخزونها من مادّة الجبس يتصدّر مخزون البلدان الإفريقية، وكذا الشّأن في مجالي تصدير الرّخام وصناعة الورَق، بل أنّ "تونسنا الفقيرة" حباها الله، لا على المستوى الإفريقي فحسب، بل على المستوى العالمي بأكمله، بثاني مخزون للفسفاط، وثالث مخزون للحديد، كما أنّ تونسنا الخضراء ثني منتج للزّيتون على مستوى المعْمورة برمّتها....
أمّا عن ثرواتنا الطّبيعيّة في مجال المحْروقات، فحدّث ولا حرج، إذ كشفت دراسة أمريكية قامت بها المؤسّسة الأمريكيّة للمسح الجيولوجي، وجود 3.97 مليار برميل من البترول و 38.5 تريليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي و1.47 من الغاز الطبيعي السائل موزعة بين تونس وليبيا، مؤكّدة أن تونس تحتل مركزًا متقدّمًا، من حيث احتياطي النفط والغاز الطبيعي، ضمن دول شمال أفريقيا.
والمُلاحظ أنّ من أشهر ملفّات نهْب ثرواتنا الطّبيعيّة من قِبَل المستعْمر الفرنسي التي طفت على السّطح منذ 2011 تلك التي اهتمّت بقطاع المحروقات (النّفط والغاز تحديدًا)، ففي حين تدّعي الدّولة التّونسيّة أنّ مداخيلها من استخْراج النّفط في بلادنا لم تتجاوز ألف مليار دينار في سنة 2017، فإن كانت حصّة إنتاج شركة آني الإيطاليّة في ولاية تطاوين وحدها لا تقلّ عمّا يعادل 27000 برميل نفط يوميّا (أرقام صرّحت بها الشّركة الإيطاليّة نفسها فيما ضلّت الدّولة التّونسيّة متكتّمة على هذه الأرقام إلى يوم النّاس هذا)، أي ما يناهز الخمسة مليون دينار يوميّا، حصّة الدّولة التّونسيّة منها 5,4 مليون دينار يوميًّا، أي 1971 مليون دينار سنويًّا، علمًا بأنّ 55 شركة لاستغلال آبار المحروقات منتصبة في بلادنا، بل أنّ الدّولة التّونسيّة قد صرّحت سنة 2006، أي قبل اكْتشاف الآبار الجديدة المنتجة لأكثر من 20% من مجموع الإنتاج المذكور، أنّ إجماليّ إنتاج ولاية تطاوين من النّفط يناهز 154 ألف برميل يوميّا، أي بعائدات للدّولة التّونسيّة لا تقلّ عن 5620 مليون دينار.
أمّا عن فقر تونس من حيث ثرواتها الطّبيعيّة المزعوم، فقد أقرّ مدير المشاريع الأسبق بالمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، ياسين المستيري، أن مخزون البلاد من "غاز الشيست" و"بترول الشيست"، الموجود خاصّة في منطقتين الأولى "غدامس′′ في أقصى الجنوب حيث يتوفر مخزون ضخم قدر ب500 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، والثانية محافظة القيروان التي تضم مخزوناً كبيراً يصل إلى 500 مليون برميل من النفط. مشدّدًا في الآن ذاته على أنّ هذه الكمّيات المشار إليها تكفي البلاد من المحروقات لثمانين سنة (80 ) قادمة.
أمّا الجهات الأجنبيّة، ومن بينها أجهزة المخابرات الأمريكيّة (!)، فقد رصدت بوسائلها الاسْتكشافيّة الخاصّة أضعاف هذه الكمّيّات، فقد أثبت تقرير مُعتَمَد من البنك الإفريقيّ أنّ مخزون الغاز الصّخري في تونس يقدر ب 1708. وقد نشرت شركة "دوالاكس انترناشيونال" الكندية، المختصّة في التنقيب عن البترول والغاز الطبيعي، في شهر مارس الماضي دراسة تؤكّد وجود مقدرات نفطيّة تصل إلى 1 مليار برميل نفط في حقل في منطقة "سيدي عمر بوحجلة" بولاية القيروان.
كيف لتونس أن تكون بلدا فقيرًا، وشركة "بتروفاك" البريطانيّة، التي منحت رئيس حكومتنا ما قيمته عشرين مليون دينار لتلميع صورته في وسائل الإعلام، وُزّعت وفق قسطاس أخلاقيّات مهنة الصّحفي المستقيم، قد شرعت في استثمار ما لا يقلّ عن ثلاثة عشرة بئرا في سواحل قرقنة فقط، علمًا بأنّ بئر المحروقات لا يُعدّ قابلا للاسْتغْلال بحْرًا إلى إذا ما تجاوزت طاقة انتاجه ألف برميل يوميًّا. أي أنّ حقل قرقنة بمفرده يدرّ على الدّولة التّونسيّة، التي لا تزال متكتّمة عن عائدتها من هذا الحقل، 474,5 مليون دينار في الحدّ الأدنى، تبرّعت الشّركة البريطانيّة، من خلال ممثّلها "التّونسيّ" عماد الدّرويش، بـ 900 ألف دينار سنويًّا من حصّتها المضاهية للمبلغ المذكور، لشباب الأرخبيل، وكلّفت ولاية صفاقس بصرف المنحة؛ وما كان من هذه الأخيرة إلاّ أن وظّفت جزاءً هامّا منها إلى مآرب أخرى، ما حدا بالشّركة البريطانيّة المانحة إلى المتناع عن تمويل الصّندوق المُحدَث للغرض.
أمّا الدّولة التّونسيّة، فقد طوّقت الجزيرة أمنيًّا لشبهة وجود عناصر داعشيّة تخطّط لإقامة إمارة إرهابيّة في الأرخبيل، هذا على الأقلّ ما صرّح به المدير "التّونسيّ" المذكور لموقع كابيتاليس الوطنيّ، فخصّص الموقع أكثر من مقال صحفيّ لكشف مؤامرة إقامة دولة داعشيّة في جزر قرقنة من قبَل مجموعة من الإرهابيّين، الأرجح أن يكونوا ضمن قائمة العائدين من سوريا. تونس دولة فقيرة من حيث ثرواتها الطّبيعيّة؟
فلتجب الحكومة الشّعب التّونسيّ، طالما أنّها ظلّت صامتة، برغم التزام رئيسها بكشف ملفّات فساد إطارات وزارة المناجم المُقالة في غضون الأسبوع الفارط، ونكثه لتعهّده، عن حقيقة نهب شركات أجنبيّة لثرواتنا المنجميّة فيما عدا مجال المحروقات. فما هي الوضعيّة الماليّة والقانونيّة لمستغلّي المناجم التّالية، وما هو وضعهم إزاء الخزانة العامة للدّولة، ومصالح الضّرائب، والقمارق، وأجهزة الدّولة التفقّديّ: دائرة المحاسبات، التفقّديّة البنك المركزي، التفقّديّة العامّة لوزارة المناجم... ؟ - مناجم الذهب بنفزة - مناجم البوكريم " منتجة –وفق ما هو مُثْبتٌ في الوثائق الرّسميّة- للزّنك - مناجم وادي بوليف منتجة –وفق ما هو مُثْبتٌ في الوثائق الرّسميّة- للزّنك - منجم كاف منتجة –وفق ما هو مُثْبتٌ في الوثائق الرّسميّة- للزّنك والمينا - منجم حمام الزريبة للفليورين والبارتين - منجم حمام الجديدي ومنجم جبل سيدي طايع ومنجم جبل الرّصاص - منجم الجريصة ومنجم تمرة للحديد - منجم جبل الحلوف بوعوان ومنجم فج حسين ومنجم بوقرنين وفج الهدوم والطّويلة ولبيض - منجم بوجابر للرّصاص والزّنك والكبريت والباريوم والكلس والمُلاحظ أنّ جميع هذه المناجم –وفْق تقارير منجميّة يعود بعضها إلى حقبة الاستعمار- تحتوي على مخزون لا يُسْتهان به من الذّهب أو الفضّة أو الكبريت أو اليورانيوم أو الزئبق، كما في منْجم العرجاء مثلاً،
ولكنّ شركات المستعمر النّاهبة لا تعلن عن وجود هذه المعادن، بل تكتفي بالإعلان عن معادن أقلّ جودة كالزّنك والرّصاص سيّدي رئيس الحكومة، ما هو، على جهة التّدقيق، وضع الجهات النّاهبة لثرواتنا الطّبيعيّة، منذ عهد الاسْتعْمار بالنّسبة للبعض منها، مثل شركة كوتوزال النّاهبة -بأمر عليّ- لملْحنا منذ سنة 1949 (ولنا عودة لهذا الموضوع في مقال لاحق)، إزاء الخزانة العامّة للدّولة، ومصالح الضّرائب، والقمارق، وأجهزة الدّولة التفقّديّة: دائرة المحاسبات، البنك المركزي للبلاد التّونسية، التفقّديّة العامّة لوزارة المناجم... ؟