المقدّمة:
ما من شكّ أنّ الخلافات التي قسّمت قيادة الحركة الوطنيّة التّونسيّة قبيْل الاستقلال كانت لها تداعيات جدّ خطيرة على مستقبل الدّولة التّونسيّة النّاشئة. وفي هذا الإطار أجمع البورقيبيّون على تقديم موقف اليوسفيّين من التّمشّي الذي اختاره الزّعيم الحبيب بورقيبة، والذي سمّاه "سياسة المراحل"، على كونه موقف متطرّف تغلب عليه المزاجيّة والأدلجة وتعوزه الواقعيّة والحكمة السّياسيّة.
ولعلّ فيما ذهبوا إليه بعض الحقيقة، ولكنّ مبدأ "اقبل بما هو متاح ثمّ طالب بالمزيد" كانت له انعكاسات سلبيّة على حسن سير المفاوضات مع المستعمر الفرنسي مقارنة خاصّة بما أفرزته وثيقة استقلال الأخت الكبرى الجزائر حيث حرص المفاوض الجزائريّ على عدم فتح مجال الصّدفة والاتّفاق في أيّ مجال من مجالات التّفاوض.
ولنا اليوم أكثر من مثال على بعض التّنازلات المشطّة التي قدّمها الطّرف المفاوض التّونسيّ، والتي لا نجد لها أيّ تفسير اليوم، سوى تسرّع الوفد التّونسيّ في الحصول على أدنى المكاسب في انتظار الفرصة السّانحة لتحقيق أعلاها سقف.
أي نعم لقد تمكّن القائمون على الدّولة التّونسيّة فيما بعد (الجلاء العسكري من كامل التّراب التّونسيّ -15 أكتوبر 1963- والجلاء الزّراعي -12 مارس 1964-) من تدارك بعض هنات معاهدة الاستقلال الدّاخلي (20 مارس 1956) -وقد تفطنّا بإثر نشرها سنة 2016 (!) إلى مدى عموميّتها وهزالتها القانونيّة والإجرائيّة- كبسط الجهوريّة التّونسيّة نفوذها على كامل التّراب الوطنيّ، إلاّ أنّ التزامها باحترام كلّ المعاهدات والاتّفاقيّات الدّوليّة السّابقة لنشأتها (25 جويلية 1957)، بما فيها تلك المجْحفة في حقّ التّونسيّين، قد جعلها غير قادرة على الدّفاع عن المصالح التّونسيّة على الوجه الأمثل.
من ذلك مثلا أنّ حكومة الاستقلال –كما الحكومات التي تلتها- لم تتكّمن من المطالبة بحقّ تونس في نصيبها التّرابي من الصّحراء، وقد عمل المستعمر الفرنسي إلى تقسيم مساحة الصّحراء على البلدان المجاورة، عدى تونس التي حُرمَت من نصيبها بتعلّة أنّ علاقتها بفرنسا كانت محكومة بنظام الحماية لا الاستعمار الممنوح من قبَل عصبة الأمم.
كما أنّنا سنتجنّب الخوض في موضوع حرْمان الشّعب التّونسيّ من حقوقه التّاريخيّة على أراض شاسعة اعتُبِرَت جزائريّة المرْجع، وقد نصّب المستعمر الفرنسي نفسه، في صورة الحال، حكمًا فضل عن كونه طرفًا ذي مصلحة مباشرة، فتنكّر لمنطقيْ الجغرافيا والتّاريخ وتصرّف إزاء الدّولة التّونسيّة تصرّف الأمر الواقع.
فلئن كانت لدينا أسباب موضوعيّة، أي التزام الدّولة التّونسيّة بعدم طلب إعادة النّظر في التزاماتها وتعهّداتها السّابقة عن تاريخ استقلالها، وأسباب ذاتيّة، باعتبار أواصر الصّداقة والأخوّة التي تربطها بجيرانها المباشرين، فإنّا لسنا نرى أيّة وجاهة في إصرار ممثّلي الدّولة التّونسيّة على التزام الصّمت إزاء عمليّات سطْو اقتُرفت في حقّ الشّعب التّونسيّ وحرَمتْه من حقوقه التّاريخيّة على ربوع هي وفْق كلّ مقاييس القانون الدّولي والجغرافيا والتّاريخ والثّقافة والحضارة والبشر ملكًا له، وهي جزيرة "بنت الرّياح" Pantelleria(كما يسمّيها المغتصب الإيطالي)، وجزر البلاجيّة الثّلاث: نموشة، وجزيرة الكتاب، ولَنْبَذُوشَة Lampedusa(وفق التّسمية الإيطاليّة).
والجدير بالملاحظة أنّ كلّ هذه الجزر قد وقع احتلالها بقوّة الحديد والنّار من قبَل الدّولة الإيطاليّة بتواطئ من المستعمر الفرنسيّ. وجرائم النّهب التي اقترفها المستعمر الفرنسي، سواء لحسابه الخاصّ (العقود المهزلة بين الدّولة الفرنسيّة والإيالة التّونسيّة لاستغلال حقول الملح التّونسيّة) أو لفائدة جارتها الإيطاليّة (عقود التّنقيب واستخراج الموادّ البتروليّة التي المُبرَمة باسم الباي مع الشّركات الإيطاليّة بصفة مبكّرة جدًّا (1931) وبدون أيّة عوائد تُذْكَر لأصحاب الأرض وثرواتها).
والحقيقة، وبالرّجوع إلى الوثائق التّاريخيّة ذات الصّلة، فلا مسؤوليّة مباشرة لبايات تونس فيما يخصّ عمليّة السّطو الإيطاليّة على الجزر التّونسيّة (ببيعها للمحتلّ مقابل مبالغ ماليّة أو لقاء التّمتّع بجواري إيطاليّات أو ما شابه، كما روّجت له بعض الدّراسات الاستشراقيّة الموالية لسلطة الحماية الفرنسيّة، أو بعض أبواق دعاية دولة الاستقلال في إطار حملتها التّشويهيّة للدّولة الحسينيّة؛ فكلّها إفتراءات تفنّدها الوثائق التّاريخيّة)؛ وأقصى ما يمكن أن يؤاخذ به مالكو الأرض والعباد آنذاك إنّما هو تخاذلهم في الذّود عن حدود الوطن التّاريخيّة وحرمته.
وبالنّظر إلى أهمّية الموْضوع ومدى وجاهة إثارته في هذا التّوقيت بالذّات، أي بعدما تحرّرت البلاد والعباد من قبضة الدّولة التنّين، ومن آثار علاقاتها مشبوهة مع الأطراف الأجنبيّة، رأينا أن نخصّص حيّزا لدراسة هذا الملفّ من كافّة الجوانب المذكورة نصرة للحقّ المسلوب واستحثاثًا لهمم القائمين على شأن هذا الوطن عسى أن يحرّكوا ساكنًا في التّجاه المأمول.
والمُستوْدع في نهاية المطاف هو الله الذي لا تضيع ودائه –سبحانه وتعالى-.
موقع جزيرة لمبدوشة التّونسيّة المغتصبة من السّاحلين التّونسيّ والإيطاليّ
موقع الجزر جزيرة "بنت الرّياح" Pantelleria التّونسيّة المغتصبة من السّاحلين التّونسيّ والإيطاليّ
(يتبع: -أوّلا: جزيرة "بنت الرّياح Pantelleria-)