في صدري آخر دين توحيدي في تاريخ البشرية. دين يشمل البشرية بأسرها وليس فقط المسلمين أو اليهود أو المسيحيين أو البهائيين. دينٌ غير إقصائي وغير عنصري وغير متعصب. دين أتى برسالة للعالمين. دين أممي عالمي غير قومي وغير وطني وغير طائفي. أفهمه كدين للمحبة والتقى والورع والتسامح والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة البشرية.
دين يحس بآلام الإنسان أيًّا كان دينه أو مذهبه أو طائفته أو عرقه أو جنسه أو جنسيته. دين لا يفرّق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. دين يعترف ويكرّم ويبجل ويحترم كل الأديان وكل الرسل وكل الأنبياء الذين سبقوه. أفهم الدين كعلاقة حميمة عمودية خاصة مباشرة مع الله. وللأسف الشديد، لقد فهمه غيري كشعائر وطقوس خارجية يمارسها المسلم بشكل ميكانيكي أو آلي مُفرغ من كل معنى روحي أو تأثير أخلاقي على الشخص المسلم نفسه قبل غيره.
قد يمارس بعض المسلمين جميع الطقوس بخشوع مشهدي وبكل مواظبة وانتظام، لا خوفًا من الله بل خوفًا من محاسبة المجتمع، والدليل أنهم هم أنفسهم الذين يغشّون في تجارتهم وأعمالهم أو يحقدون على جيرانهم لأنهم ليسوا من دينهم أو مذهبهم.. ما نفعُ التديّن في مثل هذه الحالة؟ لقد فهموا الدين الإسلامي كطاعة سلبية وخضوع لعلماء الدين ودعاته.
وقد استولى هؤلاء الأخيرين على العقيدة الإسلامية واستخدموها ووظفوها واستغلوها أسوأ استغلال لإشباع جشعهم ومآربهم ومآرب ملوكهم وأمرائهم ورؤسائهم. بل وحرّفوا المقاصد النبيلة للدين الإسلامي عن مسارها الصحيح، وقسّموا الناس إلى شيعة وسنّة وسلفية وإباضية، إلى حنفية وشافعية ومالكية وحنبلية، إلى إسلاميين وعَلمانيين، إلى أصوليين وحداثيين، إلى مذاهب إسلامية متناقضة متناحرة متباغضة متقاتلة، واستغلوا خشوع عامة المسلمين وميلهم للتقى والإحسان لكي يأخذوا منهم الصدقات والزكاة ويراكموا الأموال ويبنوا القصور أو يموّلوا الإرهاب في سوريا وليبيا والعراق..
وهكذا شاع الشقاق والنفاق والحسد والغيرة والأحقاد في المجتمعات العربية والإسلامية مما وفّر أرضية خصبة لانتشار الحروب الأهلية في جل الدول العربية والإسلامية، ولم يبق من الدين الإسلامي إلا المظاهر الخارجية الفارغة، والأحكام المسبقة المتوارثة التي تحوّل البشر إلى وحوش عن طريق الطائفية والمذهبية والتعصب والجهل والتزمت، وذلك لأنها تحرم المسلمين الأميين والمتعلمين غير المثقفين من استخدام عقولهم بشكل حر وتخنق فيهم شعلة العقل البشري. هذا العقل، ينبغي أن ننطلق منه لكي نؤسس مجتمعا آخر أكثر حرية وأكثر إنسانية.
إن القرآن يعلمنا أفضل القيم الأساسية الضرورية لسلوكنا اليومي في الحياة. إنه يعلمنا أن الله موجود، أيّاً كان تصورنا له، ويعلمنا أن الله يسهر على مصير البشر، كل البشر دون تمييز، يشملهم بعنايته ويأمرهم بأن يحبوا بعضهم بعضا. ألم يقل الرسول الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وهل وُجِد في التاريخ البشري تسامحٌ أكبر من هذا التسامحِ؟ فكيف حوّل بعض علماء الدين ودعاته رسالة محمد السمحة هذه إلى تعصب ودعوة للعنف وإكراه في الدين وملاحقة لكل عالِم أو مفكر أو مبدع أو فنان أو فيلسوف مسلم عَلماني؟
كيف حوّلوا الشيء إلى نقيضه وحرّفوا الدين عن مبادئه الأصلية السامية؟ في الواقع إن الدين بالنسبة لي هو المحبة والتسامح والحرية المطلقة والكرامة البشرية والعدالة الاجتماعية والمعاملة الحسنة والسلوك المستقيم أولا وأخيرا. وأما كل ما عدا ذلك فطقوس وشعائر تختلف من هذا المذهب إلى ذاك ولا تؤثر في الجوهر الطاهر الخالص.
في نظري، هنالك جوهر للدين يراه مَن يخشى الواحد القهّار فقط، وهنالك قشور وقوالب خارجية يطبقها كثرة من خُشاة المجتمع وقلة من خُشاة الله والمجتمع، والمهم هو الجوهر لا القشور. المهم هو الرسالة الروحية التي علمنا إياها الرسول والتي تدعو أساسا إلى التقى والعمل الصالح. فليس بالحقيقة وحدها يحيا الإنسان، وإنما بالوهم والحلم والخطأ أيضا. وكما قال هاشم صالح: "ليس بالماديات وحدها يحيا الإنسان، على عكس ما علّمتنا الوضعية الاختزالية (Le positivisme réducteur)، أو الماركسوية الفجّة والكسيحة".
قال الرسول محمد، صلى الله عليه و سلم: "مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدَهُما". أي يتحمل القائل مسؤولية الكفر إن كانت التهمة باطلة، وهي في جميع الأحوال باطلة، لأن القائل لا يعلم ما في السرائر، فهو إذن متجنِّ حتى ولو كان المتهم كافرا فعلا، فعِلم الكافر وحسابه عند الله، والله وحده العلاّم بما في القلوب.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى الله".
الشك طريق إلى مزيد من الشك، في العلم بالطبع وليس في الدين، فالدين بطبيعته لا يتحمل الشك وهو يقين من أوله إلى آخره أو لا يكون.
قال صديقي النهضاوي بكّار عزوز، أفضل نهضاوي عرفته حتى الآن: "أفضلُ هديةٍ أقدمها للناس هي الإسلام. فهل أستطيع أن أقدّم هديةً لشخصٍ أكرهه؟ طبعًا لا! فقَدَرُ المسلمِ إذن أن يحب الناس جميعًا، المسلم والمسيحي واليهودي والبهائي والملحد والمثلِيّ، إلخ". أستاذ قرآن بباريس، لا يستحي من حَثِّ طلبته على البِرِّ بالأم حتى ولو كانت مومسًا.
ديقراطي وتقدّميٌّ لأنه يقف ضد العقوبات البدنية مهما كان المجرم ومهما كانت الجريمة التي ارتكبها، ينقد النهضة أكثر مني، هو ابنها ويعرفها أكثر مني، لا يرى غضاضةً في مجالسة الأصدقاء في المقهى-الحانة بباريس ويطلب لنفسه كوكا، وهو الذي يقدّم القهوة في رمضان لضيفه الفاطر، وهو الذي يترك صلاته عندما يكون ضيفًا عابرًا لدى صديقٍ لا يصلّي حتى لا يُحرِج مضيّفه. هو الأقرب لليساريين الجمنيين والفرنسيين، وأول ما يحطّ الرحال بتونس، يطلبني، أشبع نقدًا للنهضة وهو يبتسم، يشبع نقدًا في الجبهة وأنا أبتسم، ثم نتفارق بالأحضان على أمل اللقاء مجدّدًا. سمعتُ مرّة بكتابٍ عن الإلحاد (Traité d'athéologie, Livre de Michel Onfray)، رغِبتُ في قراءته، ثمنه باهظ جدًّا في تونس، هاتفتُه وكنتُ متأكدًا من أنه قرأه، بعثه لي على الفور.
إمضائي
"و إذا فهمت نفسك فكأنك فهمت الناس جميعا". هاشم صالح
"الذهن غير المتقلّب غير حرّ".
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران