اليساريون التونسيون، جيلي، أخطئوا تقريبًا في كل شيء إلا في نواياهم الطيبة

Photo

وفي تَجَنُّبِهم العنفَ المسلّحَ، وسيلةً نضالبةً.

ملاحظة 1، ملاحظة منهجية: لم أنتمِ في حياتي لأي فصيلٍ يساريٍّ، لا قبل الثورة ولا بعدها. لذلك لم أتعرّضْ لأي قمعٍ بوليسيٍّ، ولو بسيطٍ، لا في عهد بورقيبة ولا بِن علِي. ما سأخُطّه أسفله يندرج في خانة التأريخ غير العلمي لتجربة حياة في فلك اليسار النقابي التونسي، دامت نصفَ قرنٍ (تحليل محدود، متواضع وغير مبني على دراسة، لا نظرية ولا ميدانية). لذلك سأكتفي بالإشارة تاركًا التعمّق للمختصين، أنا أعي أنني لستُ منهم.

فيما أخطئوا؟

1. قبل الثورة:

- أخطئوا في تصنيفهم للدين كبنية فوقية، والدين يكاد ينقب أعينهم، دينٌ مجسّمٌ في البنى التحتية، واللهُ أمام نواظرهم، ساكنٌ في قلب كل مسلم تونسي، أي في قلوبِ أغلبية الشعب، وخاصة العمال منهم، الذين من أجلهم المفروض تناضلون ولإقامة دولتهم البروليتارية تطمحون.

- أخطئوا في النضال من أجل طبقة غير موجودة في مجتمعنا، البروليتاريا (تُعرّفُ الطبقة بوعيها الطبقي، لا بوجودها الفعلي ولا بعدد العمال). مفهوم العمل نفسه بالمعنى الرأسمالي، مفهوم وافدٌ علينا ولم نتبنّاه بعدُ، للأسف أو من حسن حظنا؟ مسألة لم تُحسَم بعدُ، مسألة مطروحة للنقاش.

- أخطئوا في تصنيف مسألة المرأة كتناقض ثانوي، وهي في الواقع التونسي تناقض رئيسي، بل تكاد تكون التناقض الوحيد في غياب تناقضات الصراع الطبقي بالمفهوم الماركسي.

- أخطئوا في كل محاولاتهم المتكررة من أجل تغيير المجتمع قبل تحليله وفهمه، لذلك فشلوا في المهمتَين.

- أخطئوا في عدم استغلال مجال الحرية الثقافية الذي أتِيحَ لهم وحُرِمَ منه غيرهم، يبدو لي أن هذا التقصير ناتجٌ عن احتقارهم للثقافة عمومًا كعاملٍ مادّي للتغيير مع أنهم مِن أفضلِ المثقفين عندنا.

- أخطئوا في تبذيرِ طاقتهم الذرية: في عهد بورقيبة، بذّروها في توزيع مناشير لا طائلَ من ورائها إلا إشباع وهمهم النضالي. أما في عهد بن علي، فبذّروها في الخصام مع عدوٍّ وهميٍّ أيضًا، سمّوه الظلاميين.

2. بعد الثورة:

- أخطئوا في عدم نقد تجربتهم "النضالية" قبل الثورة.

- أخطئوا في استعمال "التقية": تخلّوا ظاهريًّا عن الشيوعية وحافظوا على أسوءِ ما فيها، الستالينية.

- أخطئوا في عدم استغلال الثقافة لنشر فكرهم خاصة بعد ما جاءت حرية النشر والتعبير وبقوا على موقفهم المُحَقِّر للثقافة كأداة غير ناجعة للتغيير المجتمعي حسب رأيهم.

- أخطئوا في تحالفهم أو تنسيقهم مع قوى الثورة المضادّة ممثلةً في السبسي وأزلامه.

- أخطئوا في تقوقعهم على أنفسهم وعلى إيديولوجيتهم المتكلّسة المستوردة وغير المتصالحة مع هوية شعبهم، الهوية العربية-الإسلامية، هذا مع إقرارهم العلني بأن لا هوية للشعب التونسي غيرها.

ملاحظة 2: أكتفي بهذا القدر من النقد الذاتي. القائمة تطول لكن الرفقَ برفاقي ألجمني عن المزيد من النقد الهدّام، كل بناءٍ جيّد ٍيسبقُه هدمٌ جيدٌ، لذلك دائمًا أقول: "النقدُ هدّامٌ أو لا يكون". الساعة الثانية إلا ربع بعد نصف الليل، تصبحون على غدٍ أفضلَ أيها الأحبّة، ولو لم أكن أحبّكم، ما سهرتُ الليل لأجلكم.

ملاحظة 3: بِصدقٍ لم ولن أشكّ لحظةً في نواياكم الطيبة لكن للأسف الغاية لا تبرّر الوسيلة. أخيرًا أحييكم على تطوّعِكم لخدمة أهلكم وشعبكم رغم أنهم لا يبادلونكم حبًّا بحبٍّ، وأحييكم ايضًا على نضالكم السلمي رغم المِحن التي مررتم بها خاصة في عهد بورقيبة والسلام لكل رفاقي اليساريين التونسيين، أعرف جيدًا أن بعضكم يكرهني ولا يطيقني لكنني والله أحبكم، أحبكم لعلمكم وثقافتكم اللذان لم أجدهما في غيركم.

ملاحظة أخيرة: بالله عليكم لا تقولوا لي: "لماذا لم تنقد النهضة؟". أولا، لكل مقامٍ مقالٌ، ثانيًا، لعلمكم لقد نقدتُ النهضة وأخواتها نقدًا عميقًا في مقالٍ حديثٍ، عنوانه: "الصحوةُ الإسلاميةُ في العالَمِ العربيِّ: توصيفٌ وليس حُكمًا قطعيًّا نهائيًّا؟" ومن سوء حظ بعضكم أن مقالي هذا حُظِي بإعادة النشرِ والترحيب وشخصي بالتبجيل والاحترام من قِبل ثلّة من القرّاء الإسلاميين المحترمين.

خاتمة: أجِلّ بعضَ نضالاتكم وأنحنِي احترامًا لشهدائكم، وعلى رأسهم شهيد الوطن، الشيوعي نبيل بركاتي (شهيد آخر عهد نظام بورقيبة، 1987)، شهيد حزب العمال الشيوعي، وشقيق صديقي اليساري المثقف الذي لا يشمله نقدي هذا، زميلي وجاري رضا بركاتي.

إمضائي

و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات