"لقد حيرتنا يا فتى، لم نفهم سبب نزيفك المعوي. 7٪ فقط من حالات النزيف المعوي التي نعالجها في قسمنا تبقى بلا تفسير. لكن، حالتك محيرة. أنت يافع، وجهازك المعوي بأفضل حال قد يتمناها المرء. سنتركك تعود إلى منزلك. لكن، ستعود لإجراء فحوصات أخرى. علنا نفهم سبب نزيفك المحير". هكذا ختم رئيس قسم الجراحة حديثه معي. قبل أن يلتفت إلى طلبته من الأطباء المقيمين، "مرض العذر لا يفسر نزيفه المعوي. هذا الدفق من الدماء لا ينفجر من الخارج. لا بد أن يكون مصدره داخلي. لا بد أن يتواتر حدث داخلي مع صدمة خارجية لتنزف دماء بهذه الغزارة". فعلا، دكتور، مصدره داخلي. وتواترت معه كدمات خارجية.
رغم نبوغك الجلي في علم الطب، إلا أن ثقافتك الأدبية تبدو مدقعة. ألم تقرأ لحسين البرغوثي قوله: "كنت عاقلا، ومثقفا، وطالبا في الدراسات العليا، وكل شيء يبدو على ما يرام. وفي الداخل، صحراء فيها كائن قاعد على ركبتيه في الفراغ، ويأكل قلبه كما يقول الشاعر الإنجليزي. هل هو مر؟ مر جدا يا صديقي". لم تكن لتفهمني، يا دكتور، لو حدثتك عن مرارة القلب. فتلك الأجهزة الطبية المتطورة، التي تحسن الدكتورة كشير إعمالها بإتقان، عاجزة عن كشف دواخل المرء الجوانية. لا دواخله البيولوجية، بل دواخله الوجودية.
"تبدو عاقلا، ومثقفا، ووضعك المادي جيد، فماذا أهل بك يا بني؟". سألتني الدكتورة كشير، وهي تنظر إلى أمعائي في شاشة جهاز المنظار الداخلي. "أمعائك نظرة، بحالة جيدة. فمن أين يأتيك الوجع؟ لو توفيت، لا قدر الله، لكان موتك غريبا". تبسمت في داخلي، فيما كنت أصرخ من وجع المنظار الفاحص الذي يتجول داخل أمعائي. فعلا، دكتورة، كان موتي سيكون غريبا. مستغلقا. وكنت ستضطرين إلى البحث عن معاني الغريب في شعر محمود درويش، لتعثري على تفسير مقنع تدونيه في شهادة الوفاة. لعلك، حينها، تعلمين أن "أسباب الوفاة كثيرة: من بينها وجع الحياة". وجع الحياة، يا لبلاغة العبارة!
ما هي الحياة؟ سؤال لم يراودني من قبل. انتصف الليل، وبدأ الناموس هجمته الليلية على مرضى قسم الجراحة. استلقيت على الفراش استرق السمع لدرس إفتتاحي يلقيها ديدي فاسان، صاحب كرسي إناسة الصحة العمومية في الكوليج دو فرانس، حول "لا تساوي الحيوات البشرية". كانت المحاضرة استعادة لأطروحته المركزية في كتابه "الحياة، منجد نقدي". في توليفة بديعة بين أطروحات كانغيلهايم وأرندت وأدورنو وفوكو وأغامبان، يشرح فاسان ببراعة البعد المضاعف في حياة الكائن البشري: البعد البيولوجي، أو الحيوي، المتعلق بإحداثيات الكائن البشري العضوية، والبعد البيوغرافي، أو السيري، المتعلق بإحداثيات الكائن البشري الاجتماعية.
البعد الحيوي قد ترويه شفرة الجينوم، أما البعد السيري، فيرويه البشر لأنفسهم. البعد الحيوي كمي، يمكن عرضه في خطاطات وتصويرات رقمية، أما البعد السيري نوعي، ويعرضه الأدب والتاريخ وعلوم الاجتماع والفلسفة وما شاكلها من منتجات الثقافة. استحضرت من هذا الحديث نصا رهيفا لفتحي المسكيني حول الفرق بين أن نحيا وأن نعيش. حيث يبين الثنائية التي تعتمل داخل المدونة الفلسفية، من اليونان إلى اليوم، بين "مجرد الحياة" و"العيش".
فلدى الفلاسفة ارتبط العيش دائما بالقدرة على إحداث توقيع خاص، أو تدبير الحياة بشكل مخصوص. وهي قدرة لا يتوفر عليها الحيوان، المجبور على مجرد العيش، نظرا لانعدام قدرته على تدبير شكل مخصوص من الوجود خارج حتميات البيولوجيا. إلا أن المسكيني، استنادا إلى فوكو الأخير، يربط القدرة على تدبير العيش بالتفلسف، أو بالقدرة على تدبير المسافة بين مجرد الحياة أو العيش. لكن، ماذا عن العاجزين عن التفلسف، أو عن توفير ثمن فيلسوف يكون مستشارهم في الوجود، كما كان الحال لدى أرستقراطية اليونان والرومان؟ أليس في ذلك استعادة لرؤية أرستقراطية للوجود تفصل بين عامة عاجزة عن التفلسف ومجبورة على مجرد الحياة، كحال الحيوان، وبين خاصة لها القدرة على تدبير العيش، فترتفع بها إلى مرتبة الإنسان؟
لعل ذلك يرتبط بسؤال يطرحه فاسان حول غياب التفكير في اللامساواة بين البشر في نصوص فوكو، خصوصا منها نصوصه عن السلطة الحيوية. ففي مدونة مقالاته وحواراته الظخمة المعروفة ب"أقوال وكتابات"، التي تنهاز في حجمها 5000 صفحة، لا ذكر لكلمة لامساواة ولا مرة. رغم أن فوكو قد أنارنا عن ميلاد السياسة الحيوية، أي تحول الحياة إلى موضوع سلطة تدبرها عبر تشكيلة من التقنيات مثل علوم الأحياء والديمغرافيا و التخطيط العائلي والصحة العمومية، لم يخبرنا شيئا عن اللامساواة التي تنتجها السلطة الحيوية بين حياة البشر.
لماذا يحيا بشر لمدة أطول وفي صحة أفضل من غيرهم؟ لماذا يتعرض بشر للأمراض ويموتون في سن أصغر ويعانون الأوبئة أكثر من غيرهم؟ باختصار، لماذا تساوي حياة بشر أكثر مما تساوي حياة غيرهم من البشر؟ لا يكفي، إذن، أن نفهم أن الحياة موضوع سلطة، بل يجب فهم الآثار التي تخلفها ممارسة السلطة على الحياة. لفهم ذلك، من المهم ألا ننظر إلى مجرد الحياة التي يحياها البشر، بل أساسا إلى أشكال العيش التي يحيون فيها.
مثال ذلك، يظهر من مؤشر أمل الحياة عند الولادة، وهو إحدى تقنيات التقييم المجرد للحياة، أن النساء يحيون لمدة أطول من الرجال في تونس. لكن، هل يخبرنا ذلك، فعلا، عن كرامة الحياة التي يحياها النساء في تونس؟ هل يعني ذلك، حقا، أن النساء يحيون حياة أكرم من الرجال في هذا المجتمع؟ بكل بداهة العالم، الإجابة هي لا. قطعا. لذلك، عند تقييم حياة الفرد، يقول فاسان، لا يكفي أن ننظر إلى أمل حياته عند الولادة، بل آماله في الحياة عنز الولادة. يعني ذلك، أن فهم ما الذي يأمله الفرد في الحياة، أشد أهمية أحيانا من قياس أمله في الحياة، عند ولادته. فقد يكون لدى فرد من تونس أمل حياة يضاهي فردا من فرنسا. لكن، هل لهما نفس الآمال في أن يعيشا حياة كريمة بذات القدر؟ طبعا، لا. بنفس المنطق، هل يحدث أن يتوقف الفرد عن الحياة لإنقطاع آماله في الحياة؟
كان أمل حياتي مرتفعا. بيولوجيا، كنت سليما معافى. لكن، آمالي في الحياة هي التي انعدمت. لوهلة، كنت سأغادر الحياة، لأني لا أقدر على مجرد الحياة، أي لأني صرت لا أقدر على العيش. وهذا هو وجع الحياة. أن تقدر على مجرد الحياة، فيما تعجز أن تعيش. كان الأطباء مهمومين بقدرتي على الحياة، وقد اجتهدوا أيما إجتهاد في تفسيرها بأدوات طبية معقدة، متجاهلين تماما آمالي في الحياة. كانت تحتاج قدرتي على الحياة معرفة تقنية مجردة لتفسيرها، لكن آمالي في الحياة كانت تحتاج معرفة سيرية لفهمها.
التقطت هاتفي لأشاهد فيديو تعرية الشاب في الشارع من قبل قواة الشرطة في سيدي حسين. من ثم، قرأت تدوينة لسياسي تونسي يقول فيها أن حياة التونسيين خط أحمر، في تعليقه على إعتصام الجوع الذي يخوضه نبيل القروي في السجن. تساءلت، لما حياة بعض البشر أهم، عند أصحاب السلطة، من حياة بشر آخرين؟ لما تحمى حياة بشر بالقانون والشرطة والتلفاز والمال والمصحات وأفواه السياسيين، فيما تعرى حياة بشر آخرين في الشوارع؟ في ذلك يكمن مطلب الكرامة. أن يتساوى الجميع على هذه الأرض في شكل الحياة التي يحيونها. أن يكون لدى الجميع الأمل في حياة كالحياة.