الإنقلاب العسكري الذي يجري في النيجر حدث معقد للغاية ومازال غير مفهوم بوضوح حتى من قبل الصحفيين والباحثين المتابعين للبلاد ومنطقة الساحل وغرب إفريقيا. إلى حد الآن، مثلا، لم يصدر عن "الهيئة الوطنية لإنقاذ الوطن" (CNSP) التي شكلها العسكر الإنقلابيون بقيادة الجنرال عبد الرحمن تشياني (قائد الحرس الرئاسي) أي تصريح فيه إدانة أو تهديد لفرنسا أو الإتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو فيه دعم لروسيا، بخلاف تصريح وحيد تم فيه اتهام فرنسا بخرق إغلاق المجال الجوي النيجري وإنزالها لطائرة في مطار نيامي الدولي.
أما المظاهرة التي تم خلالها مهاجمة السفارة الفرنسية في نيامي فلم تكن بدعوة من العسكر الإنقلابيين، بل نظمتها حركة معارضة للرئيس بزوم تسمى M-62 معروفة بدعوتها إلى التحالف مع روسيا وقطع النفوذ الفرنسي في النيجر. ومن الدال أن الجنرال صاليفو مودي (Salifou Mody)، القائد السابق للجيش النيجري وأحد أبرز قادة الإنقلاب العسكري، هو من نزل بنفسه من أجل تهدئة المتظاهرين وصدهم عن اقتحام مبنى السفارة.
لا صحة للأخبار الزائفة التي تنقل قرارا مزعوما من قبل العسكر الإنقلابيين بوقف صادرات اليورانيوم من النيجر إلى فرنسا. كذلك، ليست النيجر هي أول مصدر لليورانيوم إلى فرنسا. بحسب معطيات وكالة التوريد الأوروبية للطاقة الذرية (EURATOM)، لم تستورد فرنسا بين 2005 و2020 سوى 19٪ من حاجياتها من الأورانيوم من النيجر.
بذلك، تكون النيجر ثالث مصدر للأورانيوم إلى فرنسا بعد كازاخستان (وهي أكبر منتج للأورانيوم في العالم) وأستراليا. بحسب مجموعة أورانو (Orano) الفرنسية التي تقوم باستغلال حقلين لإنتاج الأورانيوم في النيجر (حقل Somaïr بموجب إتفاق مع حكومة النيجر يمتد إلى سنة 2040 وحقل Cominak)، فإن صادرات النيجر من الأورانيوم لا تغطي سوى 10٪ من حاجيات المفاعلات النووية الفرنسية. هذا الأمر يختلف طبعا عن ما كان عليه الحال في الستينات وصولا إلى أوائل الألفينات، حيث كانت النيجر المصدر الأساسي للأورانيوم الفرنسي. لكن، منذ سنة 2010، تغير ذلك مع اعتماد فرنسا استراتيجية تنويع مصادر الأورانيوم، إضافة إلى إنخفاض إنتاجية النيجر وصعود بلدان منتجة أخرى مثل كازخستان وأوزباكستان وكندا لتحتل صدارة السوق.
في حوار على قناة BMFTV البارحة، كذبت وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، كل المزاعم التي تقول بعزم فرنسا التدخل عسكريا لإنهاء الإنقلاب العسكري في النيجر وإعادة الرئيس المنتخب محمد بزوم إلى الحكم. في المقابل، أكدت على أن أولوية فرنسا هي إخراج حوالي 600 ديبلوماسي وصحفي وموظف فرنسي من النيجر وإعادتهم إلى فرنسا. وهي العملية التي انطلقت منذ صباح اليوم.
مع العلم أن فرنسا لديها قاعدة عسكرية في نيامي تأوي قرابة 1500 جندي من القوات الخاصة الفرنسية. كان هناك تكهنات بإمكانية تدخل هذه القوات الفرنسية لتحرير الرئيس بزوم إثر احتجازه من قبل حرسه الرئاسي، خصوصا أن الجيش النيجري المتموقع خارج العاصمة نيامي وضواحيها لم يبدي موافقته المباشرة على الإنقلاب ولم ينخرط فيه إلا بعد 24 ساعة من المفاوضات مع الإنقلابيين من الحرس الرئاسي.
لكن، عدم تدخل فرنسا مباشرة لإنقاذ حليفها بزوم، وانتظارها مآلات الأمور وموقف الجيش النيجري من الإنقلاب، يؤشر فعلا على أن فرنسا لا تريد التدخل بمفردها في تسوية هذه الأزمة. قد تدعم فرنسا تدخلا عسكريا لإعادة بزوم إلى الحكم من قبل فاعلين محليين في الجيش النيجري ومن دول منظمة تعاون غرب إفريقيا، لكنها لن تتدخل بمفردها قط. يبقى أن مآلات الأمور مازالت غير واضحة، في ظل وجود مفاوضات مكثفة مع العسكر الانقلابيين يقودها رئيس التشاد محمد دبي الإبن الآن في العاصمة نيامي.
يبقى الجهاديون هم "الفيل الذي في الغرفة". لا يمكن فهم المعادلة في بلدان الساحل وجنوب الصحراء دون فهم أثر الجهاديين وموقعهم فيها. مع سيطرة الجهاديين من "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" الموالية للقاعدة ومن تنظيم الدولة في الصحراء وغرب إفريقيا على مساحات شاسعة في مالي وبوركينا فاسو وصولا إلى البينين والنيجر والكوت ديفوار وغانا، تصاعد وقع الإنقلابات العسكرية في هذه البلدان. وهي إنقلابات قادها أعضاء من الحرس الرئاسي الذي يعتمد عليه رؤساء تلك البلدان، ويا للمفارقة، من أجل حراستهم ومنع جيوشهم من الإنقلاب عليهم.
الحجة الأساسية التي اعتمد عليها العسكر الإنقلابيون هو عجز رؤسائهم عن مواجهة خطر الجهاديين وتمددهم. هذا ما صرح به على الأقل الإنقلابيون في مالي وبوركينا فاسو وغينيا. في البداية، لم يرفض أي من الإنقلابيين في تلك البلدان الدعم المالي والعسكري الغربي. إلا أن خطابهم المندد بالهيمنة الغربية في المنطقة قد تصاعد مع دعوات الحكومات الغربية إلى تنحي العسكر الإنقلابيين سريعا من السلطة ونقلها عبر الانتخابات إلى المدنيين.
طبعا، هذا الخطاب لقي شرعية ودعما وحشدا لدى شعوب تلك البلدان التي تعاني منذ قرون من الهيمنة الغربية الاستعمارية ومخلفاتها. وهو ما تزامن أيضا مع صعود المطاعع الروسية في كسب نفوذ بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا. لكن، هل نجحت سلطات العسكر الإنقلابيين، في مالي وبوركينا فاسو مثلا، في صد خطر الجهاديين؟
كل المؤشرات تدل على أن الإنسحاب العسكري الغربي ووقف الدعم الغربي لمالي وبوركينا فاسو قد أدى إلى مزيد تدهور الأوضاع وتمدد الجهاديين. ليس أدل على ذلك من تصاعد وتيرة المواجهات بين التنظيمات الموالية للقاعدة وتنظيم الدولة في مناطق عديدة من شمال ووسط مالي وشمال بوركينا فاسو في ما يشبه حرب سيطرة حقيقية بينها، في ظل غياب حضور أو تدخل عسكري قوي من قبل حكومات عسكر مالي وبوركينا فاسو.
في ظل ذلك، تتصاعد أصوات المحللين في الغرب بضرورة إعادة ترتيب الأولويات، ووضع مكافحة الإرهاب كأولوية أساسية على قائمة أجندتها في بلدان الساحل وغرب إفريقيا، إضافة إلى اعتماد المرونة والتفاوض في ذلك. وهو ما يعني ضرورة التعامل مع الحكومات في المنطقة ولو أتت نتيجة إنقلاب عسكري، والتخلي نسبيا عن التصلب في ما يسمى دعم الديمقراطية، ومناقشة كل الخيارات في استيعاب الخطر الجهادي بما فيها التفاوض مع التنظيمات الجهادية من أجل وقف الصراع المسلح ولو وقتيا.