عرفته خطيبا مفوها، رومانسيا حالما، عقلانيا ناظرا، ومناضلا عاملا. يتنور بالفكرة، ويرتوي بالشعور، ويتغذى بالنضال. جذوره في قاع المجتمع ورأسه في أعاليه. وبينهما، كان يجعل من جسده ممرا تعبر منه أصوات القاع لتهز الأعالي. أتى من تحت. وكرس حياته ليحمل معه من تحت إلى فوق.
لم يكن يرى خلاصا لذاته. أراد أن يجعل ذاته خلاصا. عرفته في الساحة الحمراء. بوقفته الشامخة وصوته الجهوري، يخطب من فوق طاولة المدرج، يذكر بقضية رفاقه المعتقلين في سجون بن علي في قضية مبيت منوبة. اجتمعت فيه صورة قل اجتماعها في فرد. كان كثرة في داخله. مناضل، ناظر، كاتب، حالم، شعبي، مثقف، يساري، عروبي.
في كثرته، كانت الحرية أفقه الناظم. منذ جلستنا الأولى، تيقنت أني أمام إنسان فذ. تحدثنا عن التغيير المنشود وملامحه، ممكناته ومعطلاته، أشكال المقاومة المطلوبة، ماذا نريد، وكيف نحقق ما نريده؟ كان ينطق بلغة يجهلها قومه من يسار الجامعة حينها. معجم دلالي جديد. لن نمضي بعيدا دون معجم دلالي جديد. الأفكار والأفعال تنشأ من رحم اللغة. ذلك رحمنا التوليدي.
أوقدت عيناه على وقع هذه الكلمات. ومنها، نشأت نصوص بلغة جديدة. المحايثة، الأفقية، الجذمور، التجذر، آلة المقاومة. يجب أن نفكر بعقولنا، لا بعقول غيرنا. هكذا حدثني. هذه المعارضة هي من جنس النظام. يريدون منا التفكير بعقول مستعارة. بعقل الجماعة، الحزب الثوري، الطليعة، الزعيم، السيد، النص. هذه قاعدة الإستبداد المعرفية. يجب أن نفكر مع مجتمعنا. لا ضده، ولا خارجه، ولا فوقه.
كان رحما توليديا، نظرا وممارسة. أتذكر ذات ديسمبر في بطحة محمد علي. كان في الصف الأمامي يقارع شرطيا بساعديه. كان فكرة يحملها ساعد. صار فكرة لا ساعد يحملها.
هنيئا لك مالك، لم ينهكك وجع الحياة. ستبقى صرخة ضد كل ما في الحياة من أوجاع. تتردد في الأرجاء، فينا، ومنا، وعبرنا، ومن خلالنا.